اليمين الأوروبي المتطرف وخرافة "الأسلمة"
الخطاب اليميني المتطرف يتجاهل كلية التاريخ الفعلي للعلاقات بين المسلمين والأوروبيين؛ فالمسلمون ليسوا غرباء عن أوروبا.
أفضى تطور وتنامي حركات اليمين المتطرف والشعبوي في العديد من البلدان الأوروبية، إلى ظهور خطاب سياسي جديد يحظى بتعاطف وتأييد قطاع من الأوروبيين وإن كان قليلا مقارنة بالتيار الرئيسي والمركزي في الحياة الفكرية والسياسية الأوروبية.
ويتميز هذا الخطاب اليميني المتطرف بوجود عدد كبير من الثنائيات المتعارضة والمتناقضة، مثل أوروبا والإسلام، المسيحية والإسلام، العلمانية والأصولية، التخلف والحداثة، والهوية الأوروبية في مقابل الهويات الأخرى، وهذه الثنائيات تبدو كما لو كانت قدرية وأبدية، وتوجد حيث توجد الجاليات الإسلامية في قلب المجتمعات الأوروبية، وأنه يصعب التوفيق بينها على أي نحو ولا تجد حلا إلا في التخلص من الطرف الآخر وفرض القيود عليه وهو في هذه الحالة الجاليات المسلحة المقيمة في هذه البلدان.
وهذه الثنائيات تبسيطية واختزالية، ذلك أن الخطاب الذي يتضمنها يتجاهل الواقع المركب في المجتمعات الإسلامية أو في المجتمعات الغربية؛ حيث تمر الأولى بمرحلة جديدة ونوعية من الاضطرابات والحروب الأهلية والصراعات الدينية والإرهاب، أما في المجتمعات الغربية الأوروبية فإنها تمر بأزمة منذ عام 2008 ونتيجة تطبيق سياسات العولمة النيوليبرالية وتقليص اتفاق الدولة على الصحة والتعليم وانتهاج سياسات تسريح العاملين، وتطبيق نظام العمل وفق عقود مؤقتة، فضلا عن ارتفاع نسبة البطالة.
"الإحلال الكبير" وخرافة الأسلمة
في ثنايا خطاب اليمين المتطرف يبرز على نحو خاص موضوع "الإحلال الكبير" great re Placement "وموضوع "أسلمة أوروبا"، وهما الموضوعان اللذان يشكلان القاسم المشترك الأعظم بين جميع حركات اليمين المتطرف في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية ونيوزيلندا، والأول يعني أن حركات اليمين المتطرف تتهم النخب الحاكمة في بلدان الاتحاد الأوروبي بالسعي إلى جلب الوافدين والمهاجرين بين العالم الإسلامي وأفريقيا للحلول محل البيض الأوروبيين، وتغيير الهوية الأوروبية العرقية والدينية، وهذه النظرية قدمها أحد منظري العنصرية الفرنسيين ويدعى رينوكامو، ووجد المحققون في جريمة نيوزيلندا والدنمارك والجرائم العنصرية التي ارتكبت في أمريكا مؤخرا صلة منفذيها الفكرية والسياسية بهذه الفكرة واقتناعهم بها.
أما موضوع "أسلمة أوروبا" فيُعَد من أهم محاور الخطاب اليميني المتطرف، ويزعم أصحابه أن أوروبا في طريقها إلى الأسلمة، وأنه لو استمرت الهجرة على معدلاتها الراهنة، فليس من المستبعد أن نجد في بعض الدول الأوروبية رئيسا مسلما خلال بعض السنوات، وبموجب هذا الخطاب فإن عدد المسلمين قد يعادل أو يفوق عدد المسيحيين في بعض الدول الأوروبية وذلك استنادا إلى ارتفاع نسبة الأعمار الصغيرة من 15 إلى 25 من المسلمين المهاجرين قياسا بهذه الأعمار لدى الأوروبيين، وكذلك ارتفاع معدلات المواليد والخصوبة لدى المرأة المسلمة مقارنة بالمرأة الأوروبية غير المسلمة، ويشبه أصحاب هذا الخطاب الهجرة العربية والإسلامية إلى أوروبا بالغزو وتكراره على نحو ما حدث في الأندلس منذ عدة قرون.
مفاهيم مفارقة للواقع
بيد أن هذا الخطاب مفارق للواقع ويتجاهل التعقيد الحقيقي والفعلي في هذه الظاهرة، أي ظاهرة هجرة المسلمين إلى أوروبا، ويستشهد أصحاب هذا الخطاب بالأرقام التي تنشرها بعض مراكز الأبحاث حول نسبة عدد المهاجرين المسلمين في الوقت الراهن مقارنة بعدد سكان أوروبا وهي النسبة التي تبلغ نحو 5% من السكان أو 29 مليون نسمة من المسلمين، وهذه النسبة مرشحة للزيادة عام 2030 إلى الضعف وعام 2050 إلى 3 أضعاف أي 15% من سكان أوروبا.
وهذه الأرقام لا تفصح إلا عن القليل من تفسير هذه الظاهرة، بل قد لا تفصح عن الحقيقة الاجتماعية والثقافية؛ فهذه الأرقام لا تقول شيئا عن تأثير البيئة الثقافية والاجتماعية الجديدة أي الأوروبية التي يخضع لها المهاجرون في جميع جوانب حياتهم؛ وبخاصة على اندماجهم وتأثرهم بالقيم الأوروبية والحديثة، ذلك أن الأغلبية من هؤلاء المهاجرين مستعدون للاندماج وتبني القيم الجديدة والأوروبية للتأقلم والتكيف، وقد أظهرت بعض الدراسات التي أجراها الاتحاد الأوروبي أن ثقة المهاجرين المسلمين بالمؤسسات الأوروبية "القضاء والشرطة والبرلمان" أعلى من معدل الثقة العامة لدى غير المهاجرين والفئات الأخرى، وذلك رغم اعتراف بعضهم بممارسة التمييز ضده في بعض الأحيان.
المسلمون والإرهاب
يرتكز الخطاب اليميني أيضا على اتهام المسلمين والإسلام عامة بالعنف والإرهاب وأن المسلمين لم يدينوا أحداث 11 سبتمبر 2001 بالطريقة المناسبة، ويتجاهل هؤلاء البيانات والتصريحات والمواقف التي عبّر عنها جميع الفاعلين الرسميين وغير الرسميين في العالم العربي والإسلامي، ولكنها لم تؤخذ على النحو الواجب؛ ذلك أن الإعلام وقتها كان يركز على التعبئة ضد المسلمين والإسلام، ويفسح مجالا لكل من يدلي بدلوه في هذا الشأن سواء من المختصين أو غيرهم، كما تجاهل الإعلام الغربي حقيقة أن 358 موظفا مسلما قد قتلوا في هذه الأحداث، كما أنه وفقا لاستطلاع "جالوب" فإن 91% من المسلمين اعتبروا أن هذه الهجمات غير مبررة أخلاقيا.
من ناحية أخرى فإن الخطاب اليميني المتطرف يتجاهل كلية التاريخ الفعلي للعلاقات بين المسلمين والأوروبيين؛ فالمسلمون ليسوا غرباء عن أوروبا؛ فقد عاشوا في الأندلس بضعة قرون، كما أن أول مسجد أنشئ في المملكة المتحدة البريطانية 1889، وفي ألمانيا توجد مقبرة إسلامية منذ عام 1798، وشهدت بولندا المساجد منذ القرن السادس عشر.
القيم المشتركة بين المسلمين وغير المسلمين
أما على صعيد القيم المشتركة فيركز هذا الخطاب على القول إن القيم الإسلامية تتناقص مع القيم الأوروبية المسيحية، ومن المؤكد أن ذلك يفتقد إلى المصداقية؛ حيث يدل تاريخ الأفكار على أن الأفكار الأساسية للفكر اليوناني والفلسفة والعلوم التي دعمت وحفزت الفكر المسيحي طوال عدة قرون وأفضت إلى ظهور عصر النهضة أسهمت في تطوير العلم الحديث، قد وصلت إلى الفكر الأوروبي والعلماء الأوروبيين عن طريق العرب والمجتمعات الإسلامية، التي قام فيها العلماء بترجمة عيون الفكر اليوناني والأرسطي ودراسته، بل عندما اتجهت أوروبا إلى التسامح الديني في عصر التنوير كانت تستلهم النموذج الذى اتبعته الإمبراطورية العثمانية في التعامل مع الأقليات والطوائف والملل.
إن هذا الخطاب يركز على الأضداد الثنائية وكأنها تناقضات تناحرية تستدعي العنف والاستئصال؛ مثل الإسلام في مقابل المسيحية، والثيوقراطية مقابل الديمقراطية، والشرق والغرب، في حين أنها في الواقع لا تعدو أن تكون صورا نمطية لا تعبر عن الواقع.
معالجة قضية الهجرة واللجوء تتطلب تطبيق معايير الاندماج والثقافة المدنية والديمقراطية وتقبل الإنسانية المشتركة التي تجمع بين هؤلاء والاحترام المتبادل والثقة المتبادلة بين البلدان المضيفة وبين المهاجرين وكذلك رفض العنف والعنصرية والتحيزات المسبقة وتأكيد الطابع السلمي للتفاعل والحوار والحقوق والمساواة.
نقطة الالتقاء التي يمكن أن نخلص إليها تتمثل في أن خرافة أسلمة أوروبا قد وحدت بين الإرهابيين والجماعات الإرهابية التي تنسب نفسها زورا إلى الإسلام وبين اليمين المتطرف الأوروبي؛ فالأولون -أي الإرهابيون- يعتمدون في خطابهم حول الهجرة الإسلامية على أن زيادة أعداد هؤلاء تعني فتح أوروبا من جديد وأسلمتها؛ فهو غزو من وجهة نظرهم، ورد الفعل اليميني المتطرف من أجل التعبئة وإشاعة الكراهية هو تبني هذا الخطاب وترويجه على نطاق واسع على طريقة "وشهد شاهد من أهلها".
aXA6IDE4LjIyNC42OS4xNzYg جزيرة ام اند امز