شكلت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى الصين حدثاً بارزاً في مفهوم العلاقات الأوروبية مع العملاق الآسيوي.
وفي الوقت نفسه نقطة ارتكاز مهمة لطبيعة النظرة الفرنسية، ومن وراء ذلك الأوروبية، للعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
فمقاربة سيد الإليزيه كانت واضحة لدرجة أزعجت ساكن البيت الأبيض ومساعديه؛ لأن فرنسا -كما ألمانيا- ترى في استقلالية أوروبا عسكرياً ودفاعياً أمراً لا مفر منه، بل هو الخيار الأمثل في الظروف الحالية والمستقبل.
وحتى الصين التي يريد الرئيس الأمريكي جو بايدن وحزبه شيطنتها والعداء معها هي ثالث أكبر شريك لصادرات الاتحاد الأوروبي بنسبة 9.0%، وهي كذلك أكبر شريك مورد لدول الاتحاد الأوروبي بنسبة تتجاوز الـ 20%، والسياسة دوماً تعبير مباشر عن التعاون الاقتصادي الذي يؤطر حتى طبيعة العلاقات بين الدول.
وعلى الرغم من تعقيدات المشهد في أوروبا، نجد الرحلات التجارية وخطوط الشحن بين أوروبا والصين زادت وتيرتها بنسبة 15% خلال العام الجاري، والقصة مرتبطة بشبكات مصالح مشتركة تتجاوز خطوط أمريكا، وعلاقتها غير المجدية مع أوروبا هذه الأيام.
والأهم في ذلك، أننا بصدد رؤية عالم جديد، يختلف شكلاً ومضموناً عن الهيمنة الأمريكية التي رسمت ملامح المجتمع لعقود وعقود، ولعل منطق الشراكة وعدم التدخل في شؤون الدول هو المدخل الأساس لصعود قوى عالمية طامحة مثل الصين.
والأرقام خير شاهد على نوايا أوروبا للخروج -أو قل الهروب- من تحت العباءة الأمريكية، فعلى الرغم من كون بلدان القارة العجوز استوردت 23% من الأسلحة الأمريكية بين عامي 2018 و2023 فإن الأزمة الأوكرانية جعلت دولاً أوروبية عدة تتجه علناً لرفع قيمة ميزانياتها العسكرية دون الاعتماد على واشنطن.
خذ على سبيل بولندا ودول البلطيق "لاتفيا، إستونيا، ليتوانيا" التي رفعت الإنفاق الدفاعي الداخلي 3%، بينما خصصت فرنسا وحدها أكثر من 400 مليار دولار لتطوير قواتها الجوية والبرية والبحرية والعاملة خارج البر الفرنسي ضمن خطة عمل تمتد لـ7 سنوات.
ولم تكن برلين بمعزل عن ذلك، بل قرر المستشار الألماني أولاف شولتش اعتماد 100 مليار يورو لتحديث جيش ألمانيا، وصرف 2% من الناتج القومي كل عام لمصلحة الصناعات العسكرية في مختلف الولايات الألمانية، ومن خلال هذا السرد السريع لماهية الأرقام المهولة يتبين لنا أن الحليف الأوروبي للعم سام لم يعد مقتنعاً بشكل كبير بضرورة طلب الحماية من الأمريكي.
وبالمحصلة، حتى مواقف أوروبا السياسية باتت تتمايز عن أمريكا فيما يخص ملفات شرق أوسطية؛ كالاتفاق السعودي الإيراني الذي رحب به الاتحاد الأوروبي مبكراً، بينما تحفظت عليه واشنطن وهي تبدي رغبتها الضمنية في بقاء الخلاف؛ كي تمارس مزيداً من الابتزاز لدول الإقليم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة