تجاهل الجغرافيا السياسية.. أوروبا تدفع ثمن «العمى الاستراتيجي»

تواجه أوروبا أخطر تحدياتها الوجودية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تُجبر على التعامل مع سيناريوهات لم تدر بخلدها منذ عقود.
ومع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية في تفاقم الأوضاع الأمنية، وتصاعد التهديدات بانسحاب الولايات المتحدة من الدور الأمني التقليدي في ظل سياسات ترامب المتقلبة، تجد أوروبا نفسها أمام مفاجأة استراتيجية قاسية: احتمال خوض مواجهة عسكرية مع روسيا دون ضمان دعم أمريكي كامل.
يضاف إلى هذا المشهد المخيف مفاوضات واشنطن المنفردة مع موسكو حول تسوية محتملة لأزمة أوكرانيا، والتي تُجرى بعيدًا عن الطاولة الأوروبية، ما يُنذر بتسوية تُكرس الهيمنة الروسية على حساب المصالح الأوروبية.
وبحسب مجلة «فورين بوليسي»، لم تكن هذه اللحظة الاستثنائية وليدة الصدفة، بل هي ثمرة تراكم أخطاء جيوسياسية استمرت لعقود.
دروس من التاريخ: تجاهل الجغرافيا السياسية يؤدي إلى الكوارث
ويزخر التاريخ بأمثلة لقادة غضّوا الطرف عن الجغرافيا السياسية، الأمر الذي دفعت دولهم ثمنه باهظًا في النهاية، مثل كارثة غزو نابليون لروسيا عام 1812، مما أدى إلى خسائر مدمّرة لجيشه وساهم في هزيمته النهائية في معركة واترلو بعد ثلاث سنوات، حيث أسفر ذلك عن تدمير جيشه بسبب تجاهل تحديات المناخ والمساحات الشاسعة. كما تكرّر الخطأ نفسه في غزو هتلر للاتحاد السوفياتي عام 1941، حيث تجاهل العوامل الجيوستراتيجية ذاتها.
وفي سياق مختلف، يظل قرار سلالة مينغ الصينية بالتخلي عن أسطولها البحري في القرن الخامس عشر مثالًا صارخًا على كيف تفقد الدول مكانتها العالمية عندما تتجاهل عوامل القوة الجغرافية، مما مهد الطريق لسيطرة أوروبا على المحيطات لقرون.
تجاهل أوروبا للتطورات الجيوسياسية
لكن يبدو أن الدروس التاريخية لم تُستوعب جيدًا في القارة العجوز. فقد تجاهلت أوروبا ثلاثة تحولات جيوسياسية كبرى:
أولها: صعود روسيا الحديثة كقوة إمبريالية جديدة تحت حكم بوتين، حيث ظلّت تعتمد بثقة عمياء على الحماية الأمريكية، بينما أهملت تحديث جيوشها وتقليص اعتمادها على واشنطن، وكرّست مواردها العسكرية في مهام ثانوية مثل مكافحة القرصنة في القرن الأفريقي.
ثانيها: فشلها في فهم التحول الاستراتيجي الأمريكي نحو آسيا منذ إعلان إدارة أوباما عن «المحور الآسيوي» عام 2011، إذ ظنّ كثير من الأوروبيين أن التواجد العسكري الأمريكي المؤقت في أوروبا بعد ضم القرم عام 2014 يعني تراجع الاهتمام الأمريكي بآسيا، بينما كان المنطق الجيوسياسي واضحًا: الصين هي الخصم الرئيسي لواشنطن.
ثالثها: التغاضي عن التحالف الصيني-الروسي المتصاعد، والذي وفّر لموسكو غطاءً اقتصاديًّا وسياسيًّا لتجاوز العقوبات الغربية، بينما استفادت بكين من هذا التحالف لتعزيز منافستها مع واشنطن.
الحاجة إلى استراتيجية أوروبية شاملة
في ظل هذه التحديات، تحتاج أوروبا بشكل عاجل إلى استراتيجية شاملة تتضمن رؤية واضحة للأمن والديمقراطية والاقتصاد. يجب أن تستغل نافذة زمنية تتراوح بين 5 إلى 10 سنوات لتعزيز قدراتها العسكرية قبل أن تستعيد روسيا قوّتها العسكرية بالكامل.
ويتطلب ذلك تحولًا جذريًّا في هيكل حلف الناتو، ليصبح تحالفًا ذا قيادة أوروبية بدلًا من الاعتماد شبه الكلي على القرار الأمريكي. كما يتعيّن على القارة بناء استقلالها الاستراتيجي عبر تطوير قدرات ردع عسكرية واقتصادية قادرة على الصمود حتى في حال انكفاء الولايات المتحدة.
لكن التحديات لا تقتصر على الجانب الأمني؛ فالأزمة أعمق من ذلك، إذ تشهد الديمقراطيات الأوروبية تراجعًا أمام صعود التيارات الشعبوية، بينما يتآكل الاقتصاد الأوروبي لصالح القوى الآسيوية، حيث تشير توقعات الأمم المتحدة إلى تراجع حصة ألمانيا من الإنتاج الصناعي العالمي من 8% عام 2000 إلى 3% فقط بحلول 2030، في حين تقفز الصين من 6% إلى 45%.
ولإنقاذ مشروعها الحضاري، تحتاج أوروبا إلى إعادة اختراع نفسها وإحياء اقتصاداتها عبر شراكات جديدة مع أفريقيا، وإعادة تقييم علاقتها مع الصين، وربما حتى إعادة دمج بريطانيا في الاتحاد الأوروبي كخطوة لتعزيز التضامن القاري.
aXA6IDMuMTQ1Ljk1Ljc2IA==
جزيرة ام اند امز