عندما يجتمع قادة أحزاب اليمين الشعبوي في الاتحاد الأوروبي لبحث مستقبل التكتل، فهذا يستدعي قليلا من القلق وكثيرا من التفكير.
أما القلق فهو إزاء قدرة هؤلاء على إحداث اختراق في منظومة الاتحاد على المدى القصير، وأما التفكير فيدور حول مقومات خطاب هذه الأحزاب، الذي كبر وفتح الباب أمام تحالفها رغم تبايناتها.
الأحزاب الستة عشر اليمينية اجتمعت مؤخرا في وارسو.. وأيّ مكان أفضل لهذا الاجتماع من عاصمة بولندا؟، تلك التي تخوض معركة مستمرة منذ أشهر ضد "سيادة" الاتحاد الأوروبي على قوانينها المحلية، وفي الوقت ذاته "تواجه" موجة من اللاجئين الراغبين بالدخول إلى "جنان" القارة العجوز عبر حدودها البرية مع الجارة بيلاروسيا.
المجتعمون في وارسو تفرّقهم تباينات سياسية وعقائدية واجتماعية عديدة، ولكن تجمعهم قواسم مشتركة لا يجب التقليل من تأثيرها وقدرتها على تنحية خلافاتهم من أجل التمدد داخل المجتمعات الأوروبية.
على رأس هذه المشتركات رفض المهاجرين، والنزعة لتغليب السيادة الوطنية على الأوروبية.. رفض المهاجرين واللاجئين أكثر الأوراق الرابحة بيد اليمين الشعبوي في أوروبا.. ولأن هذا الرفض يحظى بتأييد شعبي متزايد اتجهت أحزاب اليسار ويسار الوسط ويمين الوسط إلى تبني سياسات متحفظة في هذا الخصوص، وتحديدا خلال الأعوام الثلاثة الماضية.. فلم يعد هناك من ينادي بفتح الذراعين لاحتضان الأجانب، ولم تعد تجد هناك من يجاهر بأولوية حقوق الإنسان والقوانين الدولية في التعامل مع الهاربين من الموت.
الدعم الأوروبي الحاسم والكبير لبولندا في أزمة اللاجئين الأخيرة مع بيلاورسيا يوضح مدى خشية دول الاتحاد من تكرار اضطرارهم لقبول مئات الآلاف ممن يريدون العيش في بلاد الغرب، فيخرج من بينهم إرهابيون أو عاطلون عن العمل أو مجرمون أو ناقمون يشكلون ضغطا على الدولة والمجتمع معاً.
هي قلة قليلة تلك التي تخالف القانون وتخلق الخصومة مع اللاجئين في مجتمعات الغرب، ولكن اليمين الشعبوي يُحسن الصيد في المياه العكرة كما يقال، ويحوّل الحالات الفردية إلى ظاهرة يبعث بها الرعب في نفوس سكان تلك المجتمعات، خاصة إنْ رَبَطها بالإسلاموفوبيا أو معاداة السامية أو غيرها من المخاوف الغربية إزاء الأجنبي.
مع رحيل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن الحكم، وانتقال السلطة إلى تحالف يجمع ثلاثة أحزاب مختلفة في الرؤية والاستراتيجيات، بات هناك قلق على مستقبل اللاجئين والمهاجرين في الاتحاد الأوروبي.. فألمانيا كانت تلعب دورا قياديا في التكتل، وطالما كانت قِبلة هؤلاء المستضعَفين عندما أُغلقت في وجوههم أبوابٌ كثيرة.
لا يمكن لفرنسا أن تحل محل ألمانيا في هذا الملف تحديدا، ولا يمكن أصلا أن تكون فعالة فيه دون مساعدة الألمان.. أولا لأن فرنسا ذاتها ليست من الدول المرحبة بالمهاجرين واللاجئين، وثانيا لأن رئيسها، إيمانويل ماكرون، ليس كـ"ميركل" في إدارة هذا الملف أو غيره من الملفات المعقدة التي تحتاج إلى قدرة على القيادة الأوروبية.
ولا نذيع سراً بالقول إن "ماكرون" لا يحظى بما حظيت به "ميركل" أوروبياً، كما أن خصومه كثر داخل فرنسا والتكتل الأوروبي عموماً.. ناهيك بأنه يواجه منافسة شرسة من اليمين الشعبوي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو يحرص على عدم معاداة القاعدة الشعبية لهذا اليمين كي لا يخسر أي أصوات محتملة منها.
حتى لو تحرر "ماكرون" من كل قيوده السياسية، فلن يكون قادرا على قيادة التكتل الأوروبي في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تعترضه وتخلق حالة من التململ بين دول الاتحاد، خاصة أن بعض حكومات التكتل تعزف اليوم على نغمة الهوية الوطنية المضطهدة أمام السيادة الأوروبية التي تلغي القوانين المحلية.
لماذا لا يستغل الشعبويون الأمر وثمة مثل يحتذى أمامهم مثل بريطانيا؟
فبريطانيا تشق طريقها بعيدا عن العائلة الأوروبية رغم كل الإشكاليات التي أفرزها لها "بريكست".. صحيح أن هذا النموذج لا يمكن تعميمه، فالمملكة المتحدة تملك إمكانات تفوق الغالبية الساحقة من دول الاتحاد، ولكن الشعبويين لا يخاطبون العقول بقدر الانفعالات.
الأحزاب الشعبوية، التي اجتمعت في وارسو، تريد أن يكون لها صوت مسموع أكثر لتمارس دعايتها على نطاق أوسع.. تريد حصة أكبر في البرلمانات المحلية وفي البرلمان الأوروبي.. وتريد عبر هذا الحضور المتزايد أن تصل إلى السلطة لتفرض القيود وتتبنى الإجراءات التي توهم بها قاعدتها الشعبية بأنها صادقة في "تحرير" البلاد من الأجانب و"استرداد" سيادتها المنقوصة بسبب تبعيتها لتشريعات وقوانين الاتحاد الأوروبي.
الاجتماع ذاته في وارسو ينطوي على كثير من الدعاية وقليل جدا من النتائج.. وما يحلم به الشعبويون في أوروبا لا يمكن أن يتحقق عبر اجتماع هنا ووثيقة تفاهم هناك.. ثمة كثير من العمل يحتاج إليه هؤلاء ليقنعوا شعوب الدول التي أمضت عقودا طويلة في الحرية وحقوق الإنسان والانفتاح والعالمية، بالعودة إلى الانكفاء على الذات، والخوف من الآخر، وتفضيل الدول الصغيرة على وحدة بقوة وحجم ومنافع الاتحاد الأوروبي.
لقد نجح الشعبويون في الوصول إلى السلطة في بعض دول القارة العجوز لفترة من الزمن، ولكنهم لم يُحدثوا اختلافا جوهريا في المجتمعات، ولم يهدموا معبد الوحدة الأوروبية فوق رؤوس حُماته.. بلوغ السلطة سُجّلَ لهؤلاء كإنجاز دعائي لم يكن متوقعا قبل أعوام، ولكنه حتى الآن على الأقل لا يعيد صياغة سياسات الدول التي يحكمونها على مقاساتهم، ولا يحوّل محاكم تلك الدول إلى طاردة للاجئين والمهاجرين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة