في فرنسا ليست انتخابات.. إنها طحن العظام بين روسيا وأوروبا
الاحتشاد غير المسبوق للدولة الفرنسية ودول أوروبية خلف ماكرون وتصريحاتهم القلقة حول مستقبل أوروبا ودعم روسيا للوبان يكشف عن نيران حرب
تشكل الانتخابات الفرنسية جبهة ساخنة تعلن صراحة عن عودة أجواء الحرب الباردة بين روسيا وأوروبا، بشكل انتهك فيه الجميع القواعد الديمقراطية أو البروتوكولية المعتادة في الانتخابات.
فلم يكن احتشاد الدولة الفرنسية بشكل غير مسبوق وراء المرشح الرئاسي إيمانويل ماكرون، في مخالفة لقواعد الديمقراطية، ولا تدخل دول أوروبية صراحةً بالدعوة للتصويت له ضاربةً بعرض الحائط أصول العلاقات الدولية بعدم التدخل في الشؤون الداخلية إلا احتشادا في ساحة حرب.وقوبل هذا الاحتشاد في الجبهة الأوروبية باحتشاد مماثل في الساحة الروسية، عبر عنه استقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمرشحة الرئاسة ماري لوبان المنافسة لماكرون، على خلاف قواعد البروتوكول الروسي.
وكذلك ظهر هذا الاحتشاد في وسائل إعلام البلدين، وحرب القرصنة الإلكترونية.
ويتنافس في الجولة الثانية من الانتخابات، غدا الأحد، في أجواء استقطاب وخصومة غير مسبوقة، إيمانويل ماكرون زعيم حركة "إلى الأمام" الرأسمالي، والذي يقول إنه لا يتبع اليمين ولا اليسار، ويتحدث برنامجه عن دعم الاتحاد الأوروبي وفكر الاقتصاد والتجارة الحرة والعولمة والترحيب بالمهاجرين واللاجئين، وهو ما يناسب فكر أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
أما منافسته ماري لوبان زعيمة تنظيم الجبهة الوطنية التي تمثل اليمين المتشدد، فعلى النقيض، يدعو برنامجها إلى غلق حدود فرنسا أمام المهاجرين، وإعادة النظر في جدوى الانضمام للاتحاد الأوروبي، كما ترفض العولمة والرأسمالية وتراهما أكبر خطر على هوية فرنسا، وهو ما يخالف فكر أوروبا ويناسب فكر ومصالح روسيا.
ويأتي هذان البرنامجان المتناقضان في أتون حرب طحن العظام بين أوروبا وروسيا، خاصة فيما يتعلق بأوكرانيا والأوضاع في فرنسا وليبيا، وتصريحات روسيا حول عدم جدوى حلف الناتو، في إشارة إلى رغبة روسيا في إنهاء التحالفات الأوروبية والغربية الممثلة في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
وأظهر الحشد الفرنسي والأوروبي خلف ماكرون المخاوف الأوروبية من هذه المساعي الروسية.
ففي فرنسا، طلب الرئيس فرانسوا هولاند من حكومته صراحة بذل كل ما بوسعهم لضمان إلحاق أكبر هزيمة ممكنة بلوبان في الجولة الثانية.
وبالمثل دعا رئيس الوزراء برنار كازنوف الفرنسيين إلى التصويت لماكرون، محذرا من أن الاتحاد الأوروبي لن يصمد إذا فازت لوبان.
وحتى وزارة الدفاع لم تنأ عن نفسها من هذا التوجه؛ حيث أعلن وزيرها جون إيف لودريان دعمه لماكرون، وهو ما أثار انتقادات.
وانضم إلى هذا الاصطفاف غير المسبوق خلف أحد مرشحي الرئاسة، 60 سفيراً فرنسيا، أعلنوا دعمهم لماكرون، في محاولة حثيثة لإلحاق الهزيمة بمنافسته الشرسة لوبان.
وبرر السفراء هذا الأمر بأن مشروع لوبان سيؤدي إلى كارثة مالية لمناهضتها للرأسمالية والعولمة والاتحاد الأوروبي، وسيؤدي لعزلة فرنسا.
وفي المقابل يرون أن سيدافع عن المصالح الفرنسية في أوروبا والعالم، لإيمانه بالعولمة والرأسمالية والتكتلات.
واصطفت أوروبا، وخاصة الدول والأحزاب المتمسكة بالاتحاد الأوروبي والمناهضة لروسيا، وراء الدولة الفرنسية في هذه الحرب.
ففي ألمانيا تدخلت المستشارة أنجيلا ميركل، بشكل غير مسبوق، في مسار انتخابات بلد أوروبي آخر، قائلة إنها تتوقع أن يكون ماكرون "رئيساً قوياً" في حال انتخابه.
وبررت هذا التدخل بـ"الصداقة" التي تجمعها بفرنسا، وضرورة هذه الصداقة للاتحاد الأوروبي.
كما قال وزير المالية الألماني وولفجانج شويبليه إنه لو كان فرنسياً "سأصوت على الأرجح لماكرون".
وتعد ألمانيا الأقرب لفرنسا في الدفاع عن الاتحاد الأوروبي، وظهر ذلك في تصريحاتهما المشتركة يناير/كانون الأول الماضي التي قالا فيها إنه يجب التصدي لما وصفوه بـ"صعود الشعبوية" في أنحاء أوروبا، في إشارة إلى تيار اليمين المتشدد.
وفي بريطانيا أعلنت إيملي ثورنبيري، وزيرة الخارجية في حكومة الظل التابعة لحزب العمال دعمها لماكرون، معتبرة أنه يقدم "رؤية متسامحة لمستقبل البلاد".
وكذلك في إسبانيا أعرب وزير الخارجية ألفونسو داستيس عن أمله في أن يفوز ماكرون معتبرًا فوزه ضربة قاصمة لصعود الأحزاب الشعبوية المتطرفة في أوروبا، وفق تعبيره.
وإلى جانب أوروبا اصطف كذلك الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، صاحب العلاقات الطيبة مع الاتحاد الأوروبي، والمؤيد كذلك للعولمة والتجارة الحربة؛ حيث أعلن صراحة هذا الأسبوع وفي شريط فيديو خاص دعمه لماكرون، معتبرا أن الانتخابات الفرنسية لها أهمية كبيرة بالنسبة لقيم فرنسا.
وموقف أوباما يأتي مناهضا لموقف خلفه الرئيس دونالد ترامب، فربما لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية يأتي رئيس لأمريكا ضد التكتلات والعولمة وتتوتر علاقته بأوروبا، حتى إنه ألمح إلى دعم لوبان -بشكل غير صريح- حين قال إن حوادث الإرهاب في فرنسا سيكون لها تأثير على سير الانتخابات الفرنسية.
وعلى الجبهة الأخرى ظهرت أجواء الحرب الباردة والتصعيد في استقبال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مارس/آذار الماضي، ماري لوبان، في ظروف استثنائية، ومخالفة للبروتوكول الروسي.
وخلال اللقاء، أكد بوتين أن بلاده لا تتدخل "بأي شكل من الأشكال" في الانتخابات الفرنسية، لكن تترك لنفسها "حق الحديث مع ممثلي القوى السياسية كما يفعل شركاؤنا الأوروبيون أو في الولايات المتحدة".
ويشير بوتين بذلك إلى قيام مسؤولين في أوروبا والولايات المتحدة بالتواصل مع قادة المعارضة في روسيا وغيرها من دول العالم.
وأضاف متوجهًا بحديثه إلى لوبان: "من المهم تبادل وجهات النظر معك حول طريقة تطوير علاقاتنا الثنائية والوضع في أوروبا. أعلم أنكم تمثلون طيفا سياسيا أوروبيا يتطور سريعا" في إشارة إلى تيار اليمين الذي يصعد نجمه في فرنسا وألمانيا وهولندا وبلدان أوروبية أخرى.
ويعد هذا اللقاء استثنائيا ونادرا؛ فمن غير المعتاد أن يستقبل بوتين مرشحا لانتخابات رئاسية، خاصة قبل هذه الفترة القصيرة قبل الانتخابات المقررة في فرنسا بعد أيام في إبريل/نسيان المقبل.
فالبروتوكول والأعراف تنص على استقباله رؤساء دول أو رؤساء حكومات دول لها نظام برلماني.
وزارت لوبان روسيا بناءً على دعوة موجهة لها من مجلس الدوما "البرلمان".
وخلال الزيارة أعلنت لوبان ضيقها من العقوبات التي تفرضها أوروبا على روسيا، وقالت إنها ستعيد النظر فيها حال فوزها.
كما عبرت وسائل الإعلام عن هذه الحرب بوضوح، فقد أعلنت شبكة "روسيا اليوم" ووكالة "سبوتنيك" الروسيتان شبه الحكوميتين، الجمعة الماضية، أنهما تنويان ملاحقة ماكرون قضائيا على اتهاماته لهما بنشر أخبار كاذبة.
وجاء ذلك بعد أن اتهم ماكرون الوسيلتين الإعلاميتين بأنهما رددتا ما يصفها بأكاذيب خصمته الشرسة في السباق الانتخابي، ماري لوبان، حول امتلاكه حسابًا سريًا في ملاذ ضريبي خارج فرنسا خلال مناظرة تلفزيونية بينهما تمت الأربعاء.
وفي فبراير/ شباط الماضي قال ريتشارد فيران، الأمين العام لحزب "إلى الأمام" الذي يتزعمه ماكرون، إن وسائل إعلام ومتسللي إنترنت من داخل روسيا يستهدفون مرشح الحزب، بهدف مساعدة منافسيه المؤيدين لموسكو.
وحث فيران -الذي قال إن روسيا تؤيد فيما يبدو سياسات لوبان- الحكومة على اتخاذ خطوات لضمان عدم وجود "تدخل أجنبي" في الانتخابات.
وبالتزامن مع هذه المناوشات الإعلامية فإن فريق حملة ماكرون أعلن عن تعرضه لـ"عملية قرصنة ضخمة ومنسقة" إثر نشر معلومات تهدف للتأثير على الانتخابات.
وتتعلق عملية القرصنة باختراق مئات رسائل البريد الإلكتروني الشخصية والمهنية الخاصة بمسؤولين في حملة ماكرون.
ولم توجه حملة ماكرون اتهامًا مباشرًا إلى روسيا في هذا الأمر، ولكن ألمحت إليه؛ حيث قالت إنه "من الواضح أنها مسألة زعزعة الاستقرار الديمقراطي، مثلما حدث خلال الحملة الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة".
ووجهت الحكومة الفرنسية اتهاما مباشرا لروسيا بالتدخل المباشر ومحاولة توجيه الانتخابات الفرنسية إلى الوجهة التي تصل بمن تؤيدهم روسيا إلى سدة الحكم.
ففي فبراير/شباط الماضي، هاجم وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك ايرو، روسيا بشدة، متهما إياها بالتدخل في سير حملات الانتخابات، قائلًا إن هذا الأمر "شكل من أشكال التدخل المرفوض".
وقال إيرو، في مقابلة مع صحيفة "جورنال دو ديمانش": "يكفي أن ننظر إلى المرشحين الذين تبدي روسيا أفضلية حيالهم، بين مارين لوبان أو فرانسوا فيون، بينما يتعرض إيمانويل ماكرون، الذي يطور خطابا أوروبيا للغاية، لهجمات إلكترونية. هذا الشكل من أشكال التدخل في الحياة الديموقراطية الفرنسية غير مقبول، وأنا أندد به".
وفي أتون هذه الحرب يترقب العالم إلى أين ستسير أصوات الناخبين في جولة الأحد الفاصلة.
aXA6IDE4LjIyMi4xNjYuMTI3IA== جزيرة ام اند امز