للدول منطق يحكم سلوكها، ويشكل عقل مؤسساتها، فيكون لكل مؤسسة عقل تفكر به في القضايا التي تقع ضمن اختصاصها؛ بغض النظر عن الكوادر البشرية التي تديرها، بحيث يكون للكرسي تأثير على من يجلس عليه بحكم التقاليد التي ترسخت في المؤسسة.
وعندما يتحقق هذا، ويستقر منطق الدولة يكون أي كيان سياسي يشغل إقليما جغرافيا؛ يستقر فيه شعب، وله حكومة وعلم ونشيد قد أصبح دولة حقيقية، وإن لم يستقر هذا المنطق يظل هذا الكيان شبه دولة؛ حتى تنضج مؤسساته ويصل عقلها إلى مرحلة الرشد، ويستطيع التفكير والتدبير، ولا يحتاج أن يدار من قبل كيانات سياسية أخرى.
وقد أبدع الأديب جمال الغيطاني رحمة الله عليه في روايته الرائعة "حكايات المؤسسة" في وصف ذلك العقل الذي يحكم تفكير المؤسسات في الدول الراسخة، وكذلك فعلت الدكتورة ماري دوجلاس الأستاذة بجامعة سيراكوز الأمريكية في كتابها "كيف تفكر المؤسسات How Institutions Think" الصادر عام 1985.
يتجلى منطق الدولة من خلال قدرة مؤسساتها على التعامل مع الأزمات متعددة الأبعاد والمتشابكة في طبيعتها، والحادة المفاجئة والسريعة في حركتها، هنا فقط تظهر طبيعة الدولة، وطبيعة ومستوى نضج مؤسساتها. وهنا أيضاً يمكن التمييز بين سلوكيات أنواع ومستويات ومراتب من الدول.
والأساس الراسخ الذي تُبنى عليه مؤسسات الدولة هو مفهوم الأمن القومي، ذلك المفهوم العميق الدقيق الذي يضع إطاراً عاماً لحماية كيان الدولة من أي تهديد حالي أو مستقبلي، ويحدد قواعد التعامل مع هذه التهديدات، وجوهر مفهوم الأمن القومي في التطبيق العملي هو التمييز الدقيق والصارم للعدو من الصديق، وتحديد مستويات العداوة بين الأعداء، ومراتب الصداقة بين الأصدقاء، فليس كل الأعداء على نفس الدرجة وليس كل الأصدقاء على نفس المستوى، وبراعة المؤسسات المنوط بها حماية الأمن القومي هو وضع ذلك الميزان الدقيق لترتيب الأعداء والأصدقاء ترتيبا يميز درجة العداوة والصداقة بصورة غاية في الدقة ودون انفعال أو عاطفية.
وهذا التحديد للعدو من الصديق ولدرجات ومستويات العداوة والصداقة ليس تحديداً نظرياً، ولكنه في الحقيقة يظهر في السلوك الفعلي للدولة، خصوصاً في اللحظات التاريخية الفارقة التي تصنعها الحوادث العميقة المفاجئة. هنا فقط تظهر طبيعة الدول، ودرجة نضج مؤسساتها، وهنا فقط يتم التمييز بين المؤسسات الناضجة الراسخة، وتلك المراهقة الطائشة.
ففي اللحظة التاريخية التي نعيشها الآن في فلسطين يستطيع الباحث الجاد أن يميز بين أصناف وأنواع من الدول طبقاً لسلوكيات مؤسساتها. فهناك نموذج السلوك المراهق الانفعالي، فيلجأ إلى خطاب عاطفي مبالغ في التهديد والوعيد، ولا يفعل شيئاً على أرض الواقع؛ متناسياً أن العمل السياسي للدول هو سلوك فعلي، وليس لغة خطابية جوفاء.
وهناك نموذج السلوك الانسحابي الذي يختفي خلف تصريح ضعيف موجه إلى طرف ثالث، وفوق هذا وذاك نموذج ينطلق من منطق الدولة العريقة الراسخة، ومن مؤسسات مستقرة تجيد ببراعة إدارة الأزمات، وتتصرف بنفس المنطق الذي وصف به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه في كتابه "القيصر الجديد"، حيث قال: "أنا صاحب عقل بارد، وقلب ساخن، ويد نظيفة"، هكذا تعمل مؤسسات الدولة المصرية بعقل بارد وهادئ جداً، ومن ثم حكيم ولا يطيش مع الانفعالات الوقتية، وقلب ساخن وملتهب حرارة خوفا وحرصا على أهل غزة وعلى سائر أهل فلسطين، ويد نظيفة لا تريد منافع ولا تتاجر بآلام وآمال الشعب الفلسطيني.
لقد أثبت التاريخ الحديث والتطورات المعاصرة أن دولاً على رأسها مصر والإمارات العربية المتحدة تخدم قضية فلسطين ولا تستخدمها، وتعمل كل ما ينفعها ولا تنتفع من ورائها، وأن مؤسسات هذه الدول تدرك بعمق شديد مفاهيم الأمن القومي ومراتب ومستويات الأعداء، وكذلك مستويات الأصدقاء، وأن ذلك الترتيب يتم تطبيقه عملياً في التعامل مع حركة حماس، وكذلك مع إسرائيل، وأنها أيضاً تدرك وبعمق ترتيب المخاطر التي تهدد الأمن القومي العربي، وأن فلسطين الآن أولوية على باقي المخاطر الأخرى القادمة من الغرب والجنوب، وأنه لا يمكن أن تغرق في مشكلة واحدة، لأن لديها مؤسسات راسخة قوية كل منها يتكون من قطاعات متنوعة، والجميع يعمل بالتوازي على جميع الجبهات حتى وإن انشغل رأس المؤسسة في لحظة ما بواحدة منها، ولكن الحقيقة أن العمل يسير بالتوازي لتوافر الكوادر البشرية المؤهلة لأداء مهامها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة