يقول استطلاع رأي حديث أجرته مؤسسة "YouGov" الدولية إن 4% فقط من البريطانيين يعتقدون أن "بريكست" سار على ما يرام.
وتعتقد هذه النسبة من البريطانيين أن بلادهم قد تجاوزت تداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
هذه النسبة تستحق الوقوف طويلا عندها من قبل حزب المحافظين تحديدا، أولاً لأنه أراد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وثانيا لأنه قد يبقى قائدا لبريطانيا لعقد إضافي ما دامت المعارضة تعجز حتى الآن عن لملمة صفوفها.
ما استدعى الانتباه لهذا الاستطلاع ونسبه، هو تلك الطوابير التي تمتد أمام محطات الوقود في العاصمة لندن ومدن بريطانية أخرى منذ أيام، حيث يعاني البريطانيون شُحَّ الوقود، ليس بسبب تراجع الإنتاج أو عقوبات دولية أو حالة حرب، وإنما بسبب نقص عدد سائقي الشاحنات، التي تزود تلك المحطات بالبنزين والديزل.
قد يبدو الأمر مستهجَنا أو مبالغا فيه، ولكن الحقيقة أن طلاق لندن وبروكسل دفع بكثير من سائقي الشاحنات الأوروبيين إلى مغادرة بريطانيا والعودة إلى بلدانهم، وهؤلاء كانوا يشكلون كتلة كبيرة من القوى العاملة في القطاع.
ليس هذا السبب الوحيد، ولكنه أساسي وكافٍ ليُظهر كم كانت بريطانيا تستند إلى سكان القارة العجوز، وكم كان اقتصادها مرتبطا بدول الاتحاد الأوروبي!
السبب الثاني في أزمة الوقود، أو بالأحرى أزمة نقص عدد سائقي شاحنات التوزيع، هو جائحة كورونا، التي أجبرت الحكومة على تأجيل اختبارات القيادة للسائقين الجدد، كما أجبرت كثيرا من السائقين على الجلوس في منازلهم بعد الاشتباه بإصابتهم أو مخالطتهم مصابين بكوفيد-19.
رغم ذلك، لم تُقدِم السلطات على التساهل في إجراءات قبول أو عمل السائقين، واختارت اللجوء إلى الجيش ليقود أفراده شاحنات التوزيع.
نقص العمالة الأوروبية أدى إلى إغلاق محطات وقود في بريطانيا، وخلو أرفف منافذ البيع ومحال التجزئة.
حتى العمل في المزارع وحصاد المحاصيل قد تعطّل، ناهيك بالعديد من القطاعات، التي بدأت تعاني لذات السبب، وهناك مَن يتوقع أن يزداد الوضع سوءًا هذا الشتاء إنْ بقيت قواعد الهجرة بعد "بريكست" بهذه الصرامة.
استجابة الحكومة البريطانية لكل هذه الضغوط تبدو بطيئة جدا، وبعد عناء طويل ومطالبات جمّة من الشركات ووسائل الإعلام والنقابات العمالية، قررت أن تمنح تأشيرات مؤقتة لنحو خمسة آلاف أجنبي ليعملوا كسائقي شاحنات توزيع، رغم أن البلاد تحتاج إلى مائة ألف سائق حاليا وفق إحصائيات وأرقام دقيقة.
الحكومة دعت الجيش للمساعدة في نقل الوقود من المنتجين إلى محطات التوزيع مطلع هذا الأسبوع، ريثما يصل السائقون الأجانب ويدخلون البلاد بصيغة قانونية لا تشوبها شائبة.
الحكومة البريطانية بهذا التصرف قدمت نصف اعتراف بالمشكلة، لأنها ترى أن جزءا من الأزمة مُصطنَع ومبالغ فيه من قبل وسائل إعلام ومؤسسات وأحزاب رافضة للخروج من الاتحاد البريطاني وترغب في إظهار الجانب السلبي من "بريكست".
ينطوي الأمر على شيء من الصحة، فهناك من البريطانيين مَن لا يزال حتى الآن يريد البقاء داخل الاتحاد الأوروبي ويحلم بالعودة السريعة إليه، إذ تُسمع أصوات تحت قبة البرلمان تلقي باللائمة على "بريكست" في كل المشكلات، التي تواجهها البلاد، ونجد دائما في الصحف ووسائل الإعلام التقليدية والجديدة، من يذكر في كل مناسبة بأن الخروج قد يؤدي إلى تفكك الدولة وتمزقها، كما نجد مَن يصرخ في وجه حزب المحافظين بالقول إن زعيمه ورئيس الحكومة، بوريس جونسون، هو مَن أوصل البلاد إلى طوابير الوقود.
تُستَغلُ الأزمة على هذا النحو سياسيا، وقد كان نقص العمالة في قطاعات عمل عدة جزءا أساسيا من خطاب زعيم المعارضة وقائد حزب العمال، كير ستارمر، أمام المؤتمر السنوي للحزب قبل أيام قليلة.
اتهم "ستارمر" "المحافظين" بقيادة البلاد "نحو التهلكة"، ولكنه لم يقُل إن سبب المشكلة هو الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولم يلمح حتى إلى أن "بريكست" كان قرارا خاطئا وقع فيه البريطانيون خلال استفتاء عام 2016.
"ستارمر" يعرف معنى التشكيك بصواب "بريكست"، الذي اختاره كثير جدا من أعضاء حزبه، وقد دفع "العمال" في عهد جيرمي كوربين، رئيس حزب العمال البريطاني، كلفة باهظة خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة بسبب حالة اللا يقين والسلبية وتردد الحزب تجاه مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي.
تريد المعارضة أن يدعو "جونسون" البرلمان للانعقاد على نحو طارئ من أجل بحث أزمة نقص العمالة، التي تسبب بها "بريكست"، ولكنه لا يرغب في ذلك، ويبحث عن حلول بعيدا عن مجلس العموم رغم أنه يمتلك الأغلبية الكافية لتمرير أي قرار يحتاج إليه.
التوقيت والطريقة بالنسبة لـ"جونسون" غاية في الأهمية.. فهو لا يريد أن يستغل خصومه الأزمة لرص الصفوف ضده، كما لا يريد أن تبدو حكومته عاجزة عن الحل، وهي التي نجحت في إتمام صفقة "بريكست" واحتواء كارثة كورونا.
قريبا سيطرق "جونسون" أبواب البرلمان من أجل تسوية القضايا العالقة في ملف الخروج، ولكن بعد أن تنتهي أزمة الطوابير أمام محطات الوقود.
وأكثر من ذلك، تريد الحكومة البريطانية أن تقلب الطاولة وتستغل هذه الأزمة لصالحها، فهي من جهة تتفاخر بأنها لم ترضخ لابتزاز القطاع الخاص في التنازل عن معايير استقدام العمالة الأجنبية، ومن جهة أخرى تقول إنها أجبرت شركات التوزيع المحلية على تحسين أجور وظروف سائقي الشاحنات البريطانيين لتشجيعهم على العمل في السوق المحلية.
مهما فعلت الحكومة البريطانية ستبقى طوابير السيارات أمام محطات الوقود علامة فارقة في تاريخ بريطانيا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.. وهذه ليست الطوابير الأولى، فقد سبقتها طوابير الشاحنات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي قبيل إتمام صفقة "بريكست" بأيام، وسبقتها أيضا طوابير المهاجرين غير الشرعيين عبر الحدود المائية مع فرنسا.. أما أن تكون الطوابير الأخيرة فهذا ما يحلم به أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من الذين شاركوا في استطلاع "YouGov"، ولكن أحدا لا يمتلك القدرة على طمأنتهم لأن معضلات الانفصال عن الاتحاد معقدة جداً، ولن تُحل بين ليلة وضحاها إلا بمعجزة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة