في عام 2006 نشرتُ كتابا عنوانه "الاتجاهات المعاصرة في السياسة المقارنة: التحول من الدولة إلى المجتمع، ومن الثقافة إلى السوق".
كانت فكرة الكتاب المركزية أن من أهم نتائج العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات التحول الجذري، الذي ستشهده نظم الحكم، إذ سيكون المجتمع فاعلا تنمويا بصور تقود إلى إعلاء دوره، ممثلا في القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، ومن ثم يكون لدينا نموذج لمجتمع فاعل قوي ودولة منظمة حارسة.
وسيتم التحول في هذا النموذج من الاهتمام بالثقافة السياسية، باعتبارها المحرك الرئيسي لتوجهات الحكم والسلطة، إلى السوق بصفتها مركز تحريك وتوجيه الحكم والسلطة، ومن ثمَّ الدولة.
هذا التحول الضخم في طبيعة نظم الحكم حدث في معظم دول العالم، فيما تأخرت البلدان التي عانت أهوال الربيع العربي المشؤوم، فقد شهدت انهيار المجتمع وتفككه ودخوله في حالة احتراب داخلي، حتى الدولة لم يعد الاهتمام منصباً فيها على وظائفها وأدوارها، بل أصبح مركّزا بصورة أساسية على إعادة بنائها وترسيخ أركانها، بعد أن أوشكت على السقوط أو سقطت بالفعل.
من هنا، نستطيع أن نؤكد أن الحراك العالمي يتجه للسير مع التحولات الجديدة في طبيعة دور الدولة ووظائفها، بالتركيز على الاقتصاد أكثر من السياسة، وعلى السوق وآلياتها أكثر من الأيديولوجيا، لذلك فإن عالم الغد سوف يشهد تفاعلات مختلفة عما اعتاد عالم الأمس.. سيكون الاقتصاد هو الموضوع والمحور الأساس للتفاعلات السياسية الدولية، وستكون السياسة تابعاً للاقتصاد، وستكون حروب الغد وسائلها اقتصادية أكثر منها عسكرية، وستكون القوة العسكرية خادمة للمصالح الاقتصادية.
هذا بدوره يستوجب أن نفهم طبيعة التحولات الكبرى في العالم، وأن لغة السياسة في هذا العصر هي لغة اقتصادية، تتم ترجمتها في مظاهر محددة، هي: توفير الوظائف، ورفع مستوى المعيشة، تقديم الخدمات، تأمين الرعاية الاجتماعية، وضمانات التقاعد.
كل ذلك يتطلب سياسات تقوم على توفير موارد للدولة من خلال تفعيل الوسائل الاقتصادية والاستثمارية، فقد أصبحت الشعوب تحرص على ضمان تأمين المخرجات الاقتصادية لسياسات الدول، أكثر مما يسمى "المدخلات الديمقراطية"، فليس المهم بالنسبة للمواطن العالمي أن يشارك في صناعة السياسات بقدر ما يهمه ماذا ستقدم الحكومة له في الجانب الاقتصادي.
لا بد أن يدرك الجميع أن عملية الحكم والسلطة وإدارة الدولة أصبحت تُقاس بما تقدمه الدول للمواطن معيشيا، فلم يعد المواطن في عالم اليوم قابلا لاستهلاك الشعارات السياسية.
في ظل هذه التحولات الدولية الكبرى، التي تمثل بداية لتشكُّل عالم جديد لم تعرفه البشرية من قبل، وفي خضم استفاقة العالم من تداعيات تأثيرات جائحة كوفيد-19 على الاقتصادات العالمية والوطنية، يأتي تنظيم إكسبو 2020 في دبي ليمثل بداية وانطلاقة لهذا النظام الكوني الجديد، نظام يقوم على التشارك والتعاون منعا لوقوع حروب اقتصادية يكون الفقراء والبسطاء هم ضحاياها.. نظام يقوم على تلاقي العقول والأفكار من جميع الخلفيات الثقافية لتحقيق المصالح العليا للإنسانية، التي هي مصالح مباشرة تمس حياة الناس جميعا على الكرة الأرضية، لأنها مصالح تتعلق بمعيشتهم ومتطلبات حياتهم، بعيدا عن الشعارات الأيديولوجية والسياسية الضيقة.
هنا يأتي دور النخب المثقفة لتبصير المجتمعات بالفرص الممكنة والمتاحة لتشكيل النظام العالمي القادم، ولضمان أن يكون عادلا يحقق مصالح واحتياجات الشعوب من خلال ضمان تحقيق ديمقراطية الأفكار، التي لا تتحقق إلا بتمكين كل فكرة من الظهور والمعرفة والوصول إلى الفضاء العالمي، وتنافس الأفكار في ذلك الفضاء المفتوح، وتحقيق الاستفادة من كل فكرة صالحة ومفيدة للبشرية، وهذا هو جوهر معرض إكسبو منذ إنشائه قبل 170 عاما، بحيث يكون ملتقى للأفكار وليس عرضا للبضائع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة