مشرحة مستشفى ناصر بغزة.. أموات «بلا مكان» وأحياء «دون أجر»
هنا رائحة الموت تزكم الأنوف، ولون الدم يطغى على كل شيء. لا تسمع سوى أنين ودعاء ولا ترى إلا جثثا أو أشلاء.. هنا مشرحة مستشفى ناصر بمدينة خان يونس.
المشرحة التي باتت تعج بجثث قتلى حرب غزة، تقع على مقربة من قسم الولادة، حيث 30 مترا فقط بينهما تفصل الموت عن الحياة.
- ولادة من رحم الحرب.. صرخة الحياة تقطع أصوات القصف على غزة
- رغم «التحديات اللوجستية والعملية».. هل اقتربت هدنة غزة؟
متطوعون بلا أجر
وفي المشرحة التي يديرها سعيد الشوربجي، لا تجد سوى متطوعين يعملون بواقع 8 في كل نوبة عمل.
قبل السادسة صباحا يصل الشوربجي، إلى المشرحة، أي قبل ساعة من وصول أي شخص للتعرف على الجثث، حيث يتولى الكثير من المهام بنفسه، بحسب "رويترز".
وقد يصل انشغال كلتا يديه الملطختين بالدماء بالتعامل مع الجثث، إلى يدفع زميله أحيانا إلى مساعدته في شرب الماء.
الشوربجي، وهو أب لست بنات وولدين، والذي عاشت أسرته في غزة لأجيال قبل قيام دولة إسرائيل في 1948، يعاني من الحرمان من النوم، ويصف حاله قائلا: "تنام وأنت متوتر والنوم متقطع هذا يرهقك أكثر"، وقد يستيقظ خلال 6 ساعات 40 مرة مع كل مرة يدوي فيها القصف.
وتابع: "لا يوجد نوم طبيعي. ما الذي يمكن أن تفعله؟ أنت ليس لك إلا أن تنام وتنتظر رحمة الله".
وتدير منظمة خيرية المشرحة وتمولها تبرعات محلية أخرى، وتقدم خدماتها بالمجان.
كيف يتعاملون مع القتلى؟
ويحدد الشوربجي وطاقمه هوية القتلى ويكفنونهم ويرسلونهم إلى المسجد لتُصلى عليهم صلاة الجنازة ثم إلى قبورهم.
ويُسمح لأفراد الأسرة الأقربين بدخول المشرحة لتلاوة القرآن وترديد الأدعية وتقبيل جثث أحبائهم، فيما يقف الأقارب الآخرون خلف حواجز.
ويتجمع الناس أحيانا لأداء صلاة الجنازة قبل أن يحملوا القتلى إلى مثواهم الأخير بدلا من إجراء الشعائر مثل المعتاد في أحد المساجد.
وغالبا ما يهب المتطوعون لأداء هذه المهمة حينما لا يكون ثمة أفراد من الأسرة باقين على قيد الحياة أو حينما تفوق أعداد القتلى والجرحى سعة المساجد.
ولا يتمثل التحدي في التعامل مع عدد الجثث التي تصل فحسب، فالمشرحة تعاني من نقص الوقود في غزة وتطلق نداءات من أجل المساعدة في حمل القتلى إلى المسجد وإلى المقابر.
وإيجاد مكان في المدافن أمر عسير وخطير، فقد قُصف المدفن الرئيسي في البلدة كثيرا إلى حد دفع كثيرين إلى حفر قبور بأنفسهم في المدينة وفي مخيم اللاجئين.
وفي أثناء حديثه، جُلبت جثة رجل في الخمسينيات من عمره مغطاة بالتراب ووجهه ملطخ بالدم.
وصُممت ثلاجات حفظ الموتى في المشرحة لاستيعاب 50 جثة. لكن في بعض الأيام تعج بمثلي ذلك الرقم وتُوضع الجثث على أرضية المستشفى.
وخارج الثلاجات توجد مغسلة لتغسيل الجثث. وثمة غرفة جلوس أيضا بها شاشة تلفزيون تعرض أخبار القصف باستمرار.
أشلاء ودماء وصدمة
ويقول الشوربجي إن الحرب تثير مشاعر جارفة وتوترا شديدا يعصفان بالمبنى مع دخول المكلومين.
فبعضهم لا يستطيع تقبل حقيقة أن القصف الإسرائيلي شوّه "أحد الأحبة ممن كان يرتدي يوما أجمل الثياب" أو دفنته في التراب تحت الأنقاض.
ورغم قضاء الشوربجي 6 أعوام من العمل في المشرحة، لكنه يقول إنه لم يشهد قط مثل هذه الإصابات، فبعض القتلى لم يبق منهم إلا قطع لحم بحيث يصعب تمييز الساق عن اليد كما أن هناك أسرا كاملة اختلطت أشلاؤها معا.
وتابع الشوربجي "في أثناء حديثنا، داخل المشرحة لدينا أب تُوفيّ وابنه الذي يبلغ من العمر عامين بين ذراعيه وما يزال يحتضنه".
وأضاف: "لم نتمكن من فصل الوالد عن الابن، سنتركهما على تلك الحال وسندفنهما على تلك الحال أيضا".
ويحكي الشورجي كيف فقد أقارب له في الحرب، وأنه علم بوفاة أحد أفراد عائلته، وهو شاب، وتوقع أن يتسلم الجثة في المشرحة التي يديرها.
لكن والد هذا الشاب اتصل به ليخبره بأن أشلاء ابنه اختلطت بأشلاء من أجسام أخرى لدرجة أنه كان لا بد من دفنه في مقبرة جماعية.
وفي اليوم التالي، وصل الأب إلى المشرحة. شعر الشوربجي بحيرة، وسأله "ما الذي أتى بك إلى هنا؟".
أجاب الأب "ابني مات ودفن أتيت لأشم ريحة دم. أنا لم أشم رائحة دم ابني ولا رأيته".. هكذا تحشرج صوت الشوربجي بالبكاء وهو يروي القصة.
وقال: "لم أستطع الكلام معه، وقفت مصدوما. ومشيت ولم أجرؤ على أن أعزيه".
حظوظ الموت والحياة
"الجميع في غزة دفع ثمن هذه الحرب بعد أن فقدوا أسرهم أو أقاربهم. وكان البعض محظوظا".. هكذا يصف الشوربجي المفارقات في الموت.
وأضاف أن "صاروخا أصاب منزلا به 25 امرأة وطفلا، لكنه لم ينفجر. لكن صاروخا ثانيا سقط بعد 15 دقيقة، وعند سقوطه كان قد تم إجلاء الجميع".
وبحلول السادسة مساء يحصي مدير المشرحة عدد القتلى ويرسله إلى وزارة العدل في غزة والتي تشرف على المشرحة، ثم يعود إلى منزله ليشترك مع أسرته في البحث عن المياه والكهرباء والخبز.
ولا يتحدث الشوربجي عن عمله عندما يعود إلى منزله، حيث يقول إن "المشاهد والذكريات والتفاصيل اليومية مروعة".
وأضاف أنه عندما يسأله أهله عن يومه، يكتفي بالرد قائلا إنه "استقبل عددا من الشهداء".
وعلى صفحته على فيسبوك، ينشر مستشفى ناصر، المستشفى الرئيسي في خان يونس وأكبر مستشفى في جنوب قطاع غزة، إحصائيات يومية بأسماء قتلى الحرب.
وبحسب رويترز فإن المستشفى بين الأول و11 نوفمبر/تشرين الثاني سجل 139 قتيلا جراء الغارات الجوية، 54 منهم من الرجال (39%) و42 من النساء (30%) و43 من الأطفال (31%).