كان ولا يزال تهجير الفلسطينيين من أرضهم حلما قائما وهدفا مشروعا في المخيلة الإسرائيلية ينتظر الذريعة المناسبة واللحظة المواتية وأي لحظة انفجار تلقائية أو مفتعلة للشروع في تطبيقه من خلال المؤسسات العسكرية والسياسية الإسرائيلية.
ولعل الحرب الحالية على قطاع غزة أثبتت أن ما كان يبدو هواجس أو مخاوف أو شكوكًا لدى البعض أصبح الآن أقرب إلى الحقيقة، وما كان يتم بحثه كأفكار ورؤى في الغرف المغلقة والدوائر الضيقة أصبح الآن يُطرح علنا للنقاش كسياسات واستراتيجيات تبحث سبل وآليات ومواءمات وتوقيت تنفيذها، وأصبح يتم تداولها بشكل شبه يومي على ألسنة كبار القادة والمسؤولين على مستوى الإقليم والعالم، رفضًا أو تأييدا أو تنديدا أو تحذيرا أو تخوفا أو توجسا أو حتى نفيا.
وفي المقال السابق تعرضنا تفصيلا لواحد من أقدم مخططات تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة الفلسطينية إلى سيناء المصرية، وظروفه وملابساته، وهو المخطط المعروف باسم «خطة سيناء»، وهي واحدة من خطط ومشاريع عدة درستها الحكومة البريطانية عام 1965 أثناء العدوان الثلاثي على مصر وقبل انسحاب إسرائيل من الأراضي المصرية، بهدف دمج جزء من سيناء، وقطاع غزة، وجزيرتي تيران وصنافير، وجزء من الأردن لإنشاء منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل.
وكان من بين المشروعات المطروحة مشروع باسم «خطة سيناء»، اقترحتها على الحكومة البريطانية إليزابيث مونوريو، رئيسة قسم الشرق الأوسط في مؤسسة الإيكونومسيت في ديسمبر/كانون الأول عام 1956.
أما هذا المقال فيتعرض لأحدث هذه المخططات والذي يتمثل فيما كشف عنه معهد «ميسجاف» الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية قبل أسابيع قليلة من تفاصيل دقيقة للخطة الإسرائيلية المرتقبة لتهجير كافة سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء.
الدراسة أعدها المحلل الاستراتيجي أمير ويتمان، وجاءت تحت عنوان «خطة التوطين والتأهيل النهائي في مصر لجميع سكان غزة: الجوانب الاقتصادية».
وشملت الدراسة عدة نقاط رئيسية تعتمد عليها إسرائيل لتهجير سكان غزة إلى مصر، تعرضنا في المقال السابق لبعضها ونستكمل ما تبقى هنا.
دراسة المعهد الإسرائيلي المهم أشارت إلى أنه في عام 2017 على سبيل المثال كانت التقارير المصرية تشير إلى وجود نحو 10 ملايين وحدة سكنية خالية في مصر، نصفها تقريبا جاهز للسكن والنصف الآخر تحت الإنشاء، فعلى سبيل المثال، في مدينتين تابعتين لمحافظات القاهرة الكبرى، وهما «السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان»، هناك كمية هائلة من الشقق المبنية والفارغة المملوكة إما للقطاع الحكومي أو القطاع الخاص، تكفي كل وحدة سكنية فيها لإيواء حوالي 6 أشخاص في المتوسط، مما يعني أن بعضها فقط سيكون كافيا لإيواء مليوني نسمة.
وأضافت الدراسة: «متوسط تكلفة شقة مكونة من 3 غرف بمساحة 95 مترا مربعا لأسرة فلسطينية من غزة متوسطة الحجم مكونة من حوالي خمس أفراد في إحدى هاتين المدينتين أعلاه ستكون في حدود 19 ألف دولار، وإذا أخذنا في الاعتبار أن عدد السكان الذين يعيشون في قطاع غزة حاليا يتراوح ما بين 1.4 نسمة إلى 2.2 مليون نسمة، بناء عليه تقدر الدراسة أن إجمالي المبلغ المطلوب تحويله إلى مصر لتمويل المشروع سيكون في حدود 5 إلى 8 مليارات دولار».
وتعتمد الخطة الإسرائيلية على تقديم حوافز مالية فورية على هذا المستوى للاقتصاد المصري من شأنه أن يوفر فائدة هائلة وفورية للحكومة المصرية، وأن هذه المبالغ المالية، بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي ضئيلة للغاية حيث إن استثمار بضعة مليارات من الدولارات (حتى لو كانت 20 أو 30 مليار دولار) لحل هذه القضية الصعبة هو حل مبتكر ورخيص ومستدام.
وأكدت الدراسة أنه لتحقيق هذه الخطة لا بد من توافر شروط كثيرة في نفس الوقت، فحاليا، يتم استيفاء هذه الشروط، وليس من الواضح متى ستنشأ مثل هذه الفرصة مرة أخرى، إن وجدت.
وقالت الدراسة إنه عقب تهجير سكان غزة إلى مصر، وتفريغ القطاع من كل سكانه، يمكن لإسرائيل استغلال هذه الأرض، حيث إن تهجير السكان مقابل مبلغ مالي ضخم لمصر سيكون بمثابة نوع من الدفع لشراء قطاع غزة، وتحويله مستقبلا إلى «غوش دان» أخرى، وهي المنطقة الجغرافية التي تمتد من «نتانيا» في الشمال إلى أسدود في الشمال بطول 90 كلم، ومن البحر غربا إلى مدينة «أريئيل» في الشرق بعرض 20 كلم، بمساحة إجمالية تبلغ 1500 كلم2، يتجاوز عدد سكانها 4 ملايين نسمة وتضم مدنًا رئيسية مثل تل أبيب وريشون ليتسيون وبيتح تكفا وأسدود ونتانيا وبني براك، وغيرها، وما يزيد على 300 مستوطنة، وتعد هذه المنطقة درة تاج اقتصاد إسرائيل وعصبها المالي الأساسي، فهي تضم مركز البورصة وتجمع الاستثمارات والمصارف والشركات الضخمة للتكنولوجيا، ومركز التواصل مع العالم، وفيها تتركز معظم المؤسسات الحكومية والمباني الوزارية ومطار بن غوريون ومحطة القطار.
وترى دراسة معهد مسيجاف أن الظروف الأرضية في غزة ستكون مماثلة في المستقبل بعد إعادة إعمارها وتهيئتها لمنطقة «غوش دان» التي تضم مساكن عالية الجودة للعديد من المواطنين الإسرائيليين، وبالتالي يمكن أن تتوسع منطقة غوش دان إلى الحدود مع مصر، كما أن ذلك سيعطي زخما هائلا للاستيطان في النقب.
كما رأت الدراسة التي توقعت أيضا أن تستفيد المملكة العربية السعودية بشكل كبير من هذه الخطوة لأن إخلاء قطاع غزة يعني القضاء على حليف مهم لإيران ومساهمة كبيرة في الاستقرار بالمنطقة، وبالتالي السماح بتعزيز السلام مع إسرائيل دون التدخل المستمر للرأي العام المحلي بسبب جولات القتال المتكررة التي لا نهاية لها.
واختتمت الدراسة بأنه من الممكن التوصل إلى هذه الصفقة بين مصر وإسرائيل خلال أيام قليلة بعد بدء تدفق المهاجرين من غزة إلى مصر عبر معبر رفح، واليوم بالفعل، هناك مئات الآلاف من سكان غزة الذين يرغبون في مغادرة القطاع، والمطالبين بإيجاد الظروف المناسبة لهجرتهم إلى مصر، بالإضافة إلى ذلك، رأت الدراسة أن إغلاق قضية غزة سيضمن إمدادات مستقرة ومتزايدة من الغاز الإسرائيلي إلى مصر وتسييله وأيضا تعزيز سيطرة الشركات المصرية على احتياطيات الغاز الموجودة قبالة سواحل غزة مع نقل غزة وإفراغها من سكانها لصالح إسرائيل.
ولفتت الدراسة إلى أن إجمالي عدد سكان غزة، يمثل أقل من 2% من إجمالي سكان مصر، والذي يضم بالفعل اليوم حوالي 9 ملايين لاجئ من عدة جنسيات عربية أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة