المعارضة السياسية لا بد أن تكون من داخل الدولة لا من خارجها؛ لأن العمل السياسي من خارج الدولة لا يدخل في إطار المعارضة.
في مجتمع تراجعت فيه الثقافة بصفة عامة، والثقافة السياسية بصفة خاصة؛ أمام هيمنة خطاب ديني سطحي، تعبوي يخلط المفاهيم، ويشوهها عمداً؛ لتمرير مشروع سياسي عابر للدول.. في هذا المجتمع تفقد الكلمات معناها، وتتداخل المعاني بحيث يصبح كل شيء صحيحاً ومقبولاً. فقد عمدت جماعات التوظيف السياسي للإسلام لتحقيق أهداف حزبية وطائفية إلى خلط المفاهيم جهلاً أو عمداً؛ فقد تداخل مفهوم الدولة مع التنظيم مع الخلافة، واختلط مفهوم الشعب بمفهوم الجماعة بمفهوم الأمة، بحيث صار من المستحيل أن يستقيم الحوار بين المختلفين على الرغم من أنهم يتكلمون لغة واحدة، ويستخدمون عبارات وكلمات واحدة، وذلك لأنه صار لكل كلمة عديد المعاني، وأصبح الحوار بين العرب حوار طرشان، وفي ظل هذه الحالة يمر مشروع إيران وأردوغان والإخوان، وكل أحزاب الشيطان.
كثير ممن يختبئون خلف وصف المعارضة لحكوماتهم من خارج دولهم هم أقرب للخيانة لأوطانهم؛ لأنهم صاروا أدوات في يد حكام يسعون لتدمير دولهم، وإفشال مجتمعاتهم، لأهداف لا علاقة لها بأحلام ولا بأهداف هؤلاء المعارضين
هناك إجماع بين المفكرين السياسيين في العالم اليوم أن لمفهوم الشرعية ثلاثة مستويات؛ أولها: شرعية الدولة، ويقصد بها قبول أفراد الشعب أو غالبيتهم بالدولة التي يعيشون في ظلها؛ من حيث حدودها، وتكوين شعبها، وهويتها، وانتمائها. وثانيها: شرعية النظام، وتعني قبول غالبية أفراد الشعب بالنظام السياسي القائم من حيث طبيعته سواء أكان جمهوريا أم ملكيا، ومن حيث دستوره، ومؤسساته، وطريقة عمله. وثالثها: شرعية الحكومة أو الحكم، وتنصب على قبول ورضاء غالبية الشعب بالسياسات التي تتبعها هذه الحكومة، ونتائج أو مخرجات هذه السياسيات.
هذه الشرعيات الثلاثة تحدد كل واحدة منها طبيعة الموقف الذي يتخذه المواطن منها، فالمواطن الذي يقبل بالشرعية أمره واضح، وهو الوضع الطبيعي، أما الرافض فإنه يختلف توصيفه طبقاً لاختلاف مستوى الشرعية، فالرافض لشرعية الدولة، وهذا الرفض في العادة يأتي من جماعات عرقية، أو دينية، أو أحزاب إيديولوجية، يكون رافضا إما بالدعوة إلى تأسيس كيان أصغر من الدولة، وهنا تكون حركات انفصالية مثل الأكراد في العراق وسوريا وتركيا وإيران، أو سكان إقليم كوسوفو سابقاً، أو سكان إقليم كشمير في الهند.
وهناك من يرفض شرعية الدولة لتأسيس كيان أكبر من الدولة مثل الحركات القومية، أو الشيوعية، أو تنظيم الإخوان، أو حزب التحرير. وهؤلاء دعاة الأممية أو القومية أو الخلافة تنظر الدول إليهم على أنهم أعداء الدولة، وأنهم مخربون ساعون لهدمها لصالح دول أخرى، وعادة يتم التعامل معهم بالقوة السياسية، أو القوة العسكرية طبقا لوسائلهم هم، فيتم حظر أحزابهم وحركاتهم، واعتبارها تنظيمات ضد الدولة، وساعية لتدميرها، وتخريبها، وإذا لجأت هذه التنظيمات للقوة فيكون رد الدول عليها بالقوة.
والرافض لشرعية النظام، الذي يسعى لتغيير شكل النظام من ملكي إلى جمهوري، أو من رأسمالي إلى اشتراكي، أو تغيير كل ذلك إلى نظام إسلامي، فهؤلاء يكونون في هذه الحالة ثواراً خارجين عن الدستور والقانون، يستخدم معهم النظام كل القوة لردعهم، والتخلص منهم إذا كان قادراً عليهم، ويملك من الدعم المجتمعي ما يمكنه من ذلك، أما إذا توسع التأييد لهم، وأصبح من يرفضون شرعية النظام، ويريدون تغييره أغلبية كبيرة، وأصبح التأييد للثوار أكثر من التأييد للنظام، هنا يسقط النظام، ويظهر نظام جديد، قد يظهر من يرفض شرعيته.. ونظام الثوار هذا سوف يستخدم كل القوة والقسوة والعنف ضد من يرفض شرعيته؛ رغم أنه هو ذاته جاء بهذه الطريقة، ونظام الإخوان في مصر 2013 -2012، هو خير مثال على ذلك.
أما من يرفض شرعية الحكومة أو الحكم، أولئك الذين يؤمنون بشرعية الدولة، وشرعية النظام، ولكنهم يرفضون شرعية الحكومة القائمة لرفضهم لسياساتها، أو لفشلها في تحقيق مصالح الشعب، أو لأن مخرجات الحكم أو العملية السياسية لا تحقق الطموحات، أو لا تمثل الوعود التي تم اختيار هذه الحكومة بناء عليها.. في هذه الحالة يسمى هؤلاء الرافضون لشرعية الحكومة معارضة سياسية، لأنهم يعارضون السياسات فقط، وهؤلاء عادة ينتظمون في أحزاب أو نقابات أو مجتمع مدني، وتكون معارضتهم من خلال المؤسسات الدستورية للدولة ذاتها؛ ممثلة في البرلمان، أو النقابات، والاتحادات، أو في الفضاء الشرعي للمعارضة مثل وسائل الإعلام، أو الكتابة.. إلخ.
هذه هي المعارضة السياسية المشروعة قانونا، من شروطها أن تكون داخل الدولة، ومن خلال المؤسسات الدستورية، وبالطرق السلمية فقط، أما إذا تحولت معارضتهم إلى عمل سري، أو عنيف، أو تخريبي.. إلخ، فهذه لم تعد معارضة بل صارت خروجا عن النظام والقانون، وعملا إجراميا تخريبيا يجب أن يقابل بكل قوة وحزم من خلال مؤسسات إنفاذ القانون ممثلة في الشرطة والجيش.
المعارضة السياسية لا بد أن تكون من داخل الدولة لا من خارجها، لأن العمل السياسي من خارج الدولة لا يدخل في إطار المعارضة، بل هو درجة من درجات الثورة، وقد ارتبط العمل السياسي من خارج الدولة بحركات الاستقلال، فقد ظهر كثير من حركات الاستقلال في فترة الاستعمار من خارج دولها، والمفارقة الغريبة أن هذه الحركات كانت تظهر في عواصم المستعمر ذاته، فقد كانت باريس ولندن وإسطنبول مقراً لكثير من حركات الاستقلال، لذلك جاء الاستقلال على مقاس وهندسة وتصميم المستعمر ذاته.
وفي حالة الدولة الوطنية التي لا تستعمرها دولة أخرى، فالمعارضة يجب أن تكون من داخل الدولة ذاتها، أما إذا انتقلت المعارضة إلى خارج وطنها، واتخذت من دولة أخرى مقراً لها، وفي العادة تكون هذه الدولة معادية لدولتها بدرجة أو بأخرى، أو تتخذ موقفاً سلبيا منها، أو تريد تغيير النظام فيها، أو الضغط عليه لتمرير سياسات معينة من خلال ورقة المعارضين المقيمين على أرضها، لأنه لو كانت العلاقات بين الدولتين سليمة لم تسمح الدولة التي لجأ إليها المعارضون بأن يتخذوا أرضها مقراً لزعزعة استقرار دولتهم- ففي هذه الحالة تنقلب المعارضة في نظر الدولة التي ينتمي إليها المعارضون إلى خيانة، لأنهم مكّنوا أعداء دولتهم من أوراق ضغط سياسية تبتزها بها، وأنهم أصبحوا أداة للعدو ضد دولتهم، وأنهم قدموا لهذه الدولة مصادر قوة تنال من قوة دولتهم، وأنهم أتاحوا لتلك الدولة أسراراً، أو معلومات تهدد أمن دولتهم.. المعارضة من خارج الدولة- خصوصاً من دول ليست على وفاق مع دولتهم- تفقد صفتها السياسية وتتحول إلى خيانة وطنية.. وهنا يصبح هؤلاء المعارضون هدفاً لدولتهم، تسعى لوضعهم على قوائم الإرهاب، أو الإنتربول إذا تمكنت من إصدار أحكام جنائية ضدهم، وتستخدم معهم كل السبل لوقف الضرر الذي يسببونه لها.
للأسف الشديد فقد اختلط مفهوم المعارضة بالخيانة في العالم العربي منذ أن جاءت العصبة التي حكمت العراق بعد صدام حسين، وأصبحت تدير العراق لمصالح الدول التي ساندتهم ومكنتهم في فترة معارضتهم لصدام من خارج العراق، وبعد ثورات الربيع العربي المشؤوم تحول الكثير ممن يعارضون نظم الحكم في دولهم إلى عواصم معادية في تركيا وقطر، والتصق بهم وصف الخيانة، خصوصاً أن كلتا هاتين الدولتين استخدمتهم لتدمير دولهم، وليبيا خير مثال على ذلك.
كثير ممن يختبئون خلف وصف المعارضة لحكوماتهم من خارج دولهم هم أقرب للخيانة لأوطانهم، لأنهم صاروا أدوات في يد حكام يسعون لتدمير دولهم، وإفشال مجتمعاتهم؛ لأهداف لا علاقة لها بأحلام ولا بأهداف هؤلاء المعارضين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة