يمكن القول وبعلمية تواكبها الأدلة والشواهد أن جماعات الإسلام السياسي رددوا بالتمام والكمال ما كان يردده الخوارج.
عندما رفع الخوارج في القرن الأول من الهجرة شعارهم (لا حكم إلا لله) رد عليهم علي بن أبي طالب بمقولته الشهيرة (كلمة حق أريد بها باطل) ثم وضح: أنهم يعنون (لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا (إمرة إلا لله) وفصل رضي الله عنه: (وأنه لا بد للناس من أمير بر كان أو فاجرا يعمل في إمرته المؤمن، ويمتنع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويُجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وَتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويُستراح من فاجر).
يمكن القول وبعلمية تواكبها الأدلة والشواهد إن جماعات الإسلام السياسي رددوا بالتمام والكمال ما كان يردده الخوارج، وإذا أضفت إلى دعواتهم التمردية على السلطات، وإثارتهم للفتن، تيقنت بما لا يدع مجالا لأي شك أن العصا أخت العصية
أهم ما ورد في هذه العبارة في رأيي أنها فصّلت في معنى (الحكم) والفرق بينه وبين (الإمارة) بلغة واضحة غير ملتبسة، فالحكم عندما يرد في القرآن لا يعني بالضرورة (الحكم) بمعناه السياسي كما يستخدم اليوم، وإنما بمعناه القضائي في الفصل بين المتنازعين، وهذا ما ينسحب على كل الآيات التي حرفها الإسلاميون, وكثير من الفقهاء ذوي الغايات السياسية عن موضعها، فجعلوها تعني (الإمارة) وليس المعنى القضائي، وهذا ما أشار إليه علماء الأصول عندما يرد شاهدان أو دليلان ينقض الواحد منها الآخر، فقالوا (حكم الحاكم يرفع الخلاف)، والحاكم هنا يعني حصرا القاضي.
والإمارة في مفاهيم الإسلام شأن دنيوي، ولم ينزل في تنظيمها نص سماوي، سوى ضوابط أخلاقية عامة تحث على تحري العدل والإنصاف بين الناس، وغير هذه القواعد أوكل لولاة أمر المسلمين التعامل بما يتطلبه الواقع المتغير، والظروف غير الثابتة، بما تقتضيه العدالة بمعناها الواسع. ومن يقرأ سير خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم سيجد هذا التوجه هو الأصل، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يعمل متحريا للمصلحة، والعدل بين الناس، وما تقتضيه هذان القاعدتان فقد اجتهد حتى مع وجود النص القرآني، كما فعل في تعليق حد القطع في عام الرمادة، وكذلك منعه لسهم المؤلفة قلوبهم مع أنهم من أصحاب الزكاة، إلا أن ظروف القوة والضعف تغيرت فغير رضي الله عنه الأحكام تبعا لتغير الظروف، كما أنه، والخلفاء الذين أتوا من قبله تسمو بأمير المؤمنين، ولم يتسموا بحاكم المؤمنين، لأن الفرق في الدلالة بين (حاكم) و(أمير) يعيه ويدرك أبعاده أهل ذلك الزمان، فمعنى الحكم يقتصر في الفصل بين المتنازعين، بينما الإمارة تتعلق بالشؤون السياسية وما ترتب عليها من مسؤوليات هي أشمل وأوسع من مسؤولية الفصل في الخلاف بين طرفي نزاع.
ومن يقرأ ما تطرحه جماعة الإخوان المسلمون والفرقة المنبثقة عنها وهم (السروريون) الذين هم الأخطر والأكثر انتشارا في بلادنا، يجد أنهم في خطابهم يستعملون (الحاكم) بمعناه السياسي، وهو نفس خطاب الخوارج الذي فنده علي بن أبي طالب كما ذكرت في صدر هذا المقال، مستغلين أن مثل هذه الفروق بين المصطلحين لا يدركه عوام أتباعهم، وربما جزء كبير من خاصتهم.
لذلك يمكن القول وبعلمية تواكبها الأدلة والشواهد أن جماعات الإسلام السياسي رددوا بالتمام والكمال ما كان يردده الخوارج، وإذا أضفت إلى دعواتهم التمردية على السلطات، وإثارتهم للفتن، تيقنت بما لا يدع مجالا لأي شك أن العصا أخت العصية.
إلى اللقاء
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة