يشهد العالم المعاصر تصاعداً في نزعات وأفكار الكراهية في مختلف المجتمعات الإنسانية، ولا تفسير لهذه الظاهرة، كما أتصور إلا بأننا أخفقنا في غرس بديلها الإنساني
يشهد العالم المعاصر تصاعداً في نزعات وأفكار الكراهية في مختلف المجتمعات الإنسانية، ولا تفسير لهذه الظاهرة، كما أتصور إلا بأننا أخفقنا في غرس بديلها الإنساني، أي التسامح وقبول الآخر، وذلك رغم كل مظاهر التقدم والتحديث والعقلانية التي حققتها البشرية! معنى ذلك أن القيم الإنسانية والأخلاقية، تظل في معزل، وقد تتعرض للانكماش والتراجع، حتى في المجتمعات الأكثر تقدماً، إذا تغلبت الاتجاهات الشعبوية اليمينية الكارهة للآخر، وهذا ما يحصل اليوم في مجتمعات الغرب، كما في مجتمعات عربية وإسلامية. يحصل رغم الجهود المبذولة من قبل المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية، ومؤسسات الحوار بين الأديان وغيرها من الجهات المعنية بنشر الأمن والسلام والوئام العالمي، عبر مؤتمرات واحتفالات تعزز هذه المعاني بين الناس، وآخرها أسبوع الوئام العالمي بين الأديان، في مطلع فبراير الجاري، في عمان، حيث حرصت الأمم المتحدة على تجديد الاحتفال به، بغية إيصال رسائل التسامح والوئام والانسجام بين مختلف الأديان وجميع الناس بغض النظر عن دياناتهم. مع كل التعظيم لهذه الجهود والمبادرات الساعية لتعزيز القيم الإنسانية، فإن المد الشعبوي المتعصب، شرقاً وغرباً، مد جارف. فالرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، بمراسيمه التي يصدرها يومياً وينسف بها مراسيم سلفه، يثير جدلاً واسعاً في الداخل والخارج، لجهة النزعة التعميمية الكارهة للآخر في هذه المراسيم، والمؤيدة لسياسة بناء الحواجز والجدران بين الشعوب، ولغلق الحدود.. مما استوجب رفع دعاوى طعن، وصدور أحكام قضائية توقف عمل المراسيم.. هذا الرئيس يمثل تياراً شعبوياً كبيراً في المجتمعات الأميركية، نما على امتداد عقود طويلة، وساعدته الظروف الداخلية للمجتمعات الأميركية على الانتشار والبروز، وبخاصة، تلك الحوادث الإرهابية التي ضربت أهم رموز ومعالم الدولة العظمى، بدءاً من أحداث سبتمبر المأساوية، والتي زلزلت الثقافة الأميركية المتسامحة، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية التي أثَّرت على قطاعات عمالية عريضة، فأفقدتهم وظائفهم وجعلتهم ينظرون إلى الآخر المهاجر نظرة الخصم المنافس. لقد وصل المد الانطوائي في المجتمع الأميركي، أن أميركا زعيمة المد العولمي، ومنذ الثمانينيّات، والتي هيمنت على العالم بثقافتها العولمية، تنقلب اليوم على العولمة وتعاديها، كما تنقلب على مبادئها وقيمها التعددية التي قامت عليها منذ تأسيسها.. فمن كان يتصور ذلك؟!
وما حصل في أميركا، حصل مثله في المجتمعات الأوروبية التي تشهد اليوم، موجات عارمة من المد الشعبوي المتصاعد، تحمل كماً كبيراً من المشاعر القومية الضيقة ضد الآخر، وكان من ثمارها الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي، واهتزاز صيغة شينغن المفتوحة، وتصاعد دعوات تسييج الحدود وبناء الأسوار، وتخلخل منظومة القيم الليبرالية، وتحقيق اليمين الأوروبي المتطرف انتصارات انتخابية في معظم المجتمعات الأوروبية، وازدهار العنصرية والشوفينية والنزعات الانفصالية والانطوائية.
إن الروافد المغذية لمشاعر الكراهية عديدة في مجتمعاتنا، وفي المجتمعات الغربية، ومنها: الخطاب الديني المتطرف الذي يشحن النفوس ضد الآخر الديني والمذهبي.. ومنها: الخطاب القومي المتطرف الذي يعيش ويقتات على ترويج أوهام وهواجس التآمر الخارجي، وأن الهوية القومية مستهدفة، والثقافة في خطر، ومنها: أوهام التفوق العرقي، ومنها: الخطاب السياسي الشعبوي الذي يغذّي الانتماءات الغرائزية الأولى لدى الناخب الغربي، ويزرع الخوف في نفسه حيال الآخر.. إضافة إلى الخطاب الإعلامي غير المتوازن، وبخاصة وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي، والتي تفيض بمشاعر الكراهية ضد الآخر، ولا تتورع عن نشر الشائعات والمعلومات المحرفة، والتسريبات الملفقة، وما أكثرها!
كل هذه العوامل السلبية، تعمل على ترويج خطاب الكراهية وغرسه في العقول والنفوس. ما أصعب مهمة المصلحين ودعاة الحوار والتسامح في عالم اليوم!
*نقلاً عن " الاتحاد "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة