إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لمصابك يا مصر لمحزونون، هذا هو لسان حال كل من تابع خبر هجوم مسجد الروضة داخل وخارج مصر
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لمصابك يا مصر لمحزونون، هذا هو لسان حال كل من تابع خبر هجوم مسجد الروضة داخل وخارج مصر مسلما كان أو مسيحيا أو بوذيا أو لادينيا حتى، كل من في قلبه مثقال ذرة من الإنسانية.
كتبت قبل عام إلا أيام قليلة مقالا عنوانه - أي دين هذا؟ – معزيا في شهداء حادث استهداف الكنسية المرقسية في العباسية، الذي تسبب في استشهاد عدد كبير من الإخوة الأقباط، وأدخل الجميع في حالة حزن شديدة، وكتبت قبل مدة قصيرة معزيا في شهداء الشرطة في حادث الواحات، واليوم أكتب معزيا في شهداء مسجد الروضة الآمنين الساجدين في منطقة بئر العبد في شمال سيناء، الذين تجاوز عددهم الثلاثمائة شهيد بحسب النيابة العامة، مسجلا أحد أكثر حوادث المنطقة والعالم دموية ووحشية. ولا أجد من الكلمات ما يتناسب مع هذا المصاب الجلل، أو يخفف من الألم الذي خلّفه في قلوبنا.
وعلى الرغم من شدة الألم الذي سببه هذا الهجوم الغادر إلا أن هناك من المؤشرات ما يمكن الاستدلال بها على أن أولئك الملعونين يلفظون أنفاسهم الأخيرة على أقل تقدير في مصر، حيث ما عادوا قادرين على مواجهة الجهات الأمنية التي يناصبونها العداء بالدرجة الأولى، فيحاولون إرسال رسائل مفادها أنها ليست بالكفاءة المطلوبة لتأمين المواطن والمقيم والسائح، ليؤثروا في الصورة الإيجابية عن الاستقرار والسياحة في مصر.
ما لا يدركه أولئك المنبوذون أنه ما عاد صعبا على أي عاقل أن يحلل أسباب وأغراض هذه العمليات الجبانة.. فالمنطق والواقع يقولان إن توقيت ومكان العملية ما هو إلا إحدى محاولات إشهار بقائهم على قيد الحياة والبقاء في نطاق الخدمة للجهات التي تمولها وتحركها.
والمنطق والواقع يقولان أيضا إن التوقيت له من المدلولات والروابط ماله إقليما ومحليا، ولو ركزنا على نشاط مصر في ملفات الإقليم الساخنة في الشهرين الأخيرين فقط لوجدنا أن الرصيد عامر ولبطل العجب، ولمن لا يعرف فإن دبلوماسية مصر الحكيمة التي تعمل على رعاية أكثر الملفات سخونة بعيدا عن صخب وضجيج الإعلام عادت بقوة وتأثير منقطعي النظير، نعم.. لقد استعادت مصر دورها الريادي المؤثر الوازن والموثوق، والذي حتما سيغيظ من عملوا جاهدين فمولوا وسلحوا وحرضوا ودربوا أملا منهم في سرقة وتقمص هذا الدور التاريخي الذي أقل ما يمكن أن يوصف به أنه رمانة الميزان في المنطقة. ولا يغفل المنطق والواقع الاتفاقات والتحالفات الأخيرة التي أبرمتها مصر والصمود الكبير الذي يسجله اقتصاد البلاد أمام موجات الأزمات الاقتصادية العالمية.
أما محليا فهذا هو موسم الأعياد.. ذكرى مولد المصطفى عليه أفضل صلاة وأزكى سلام، و إحدى مواسم الأعياد المسيحية على الأبواب، وللأسف فإن هذا التوقيت من العام هو الأكثر حساسية، وقد كنا على موعد مع الحزن في هذه الفترة من الأعوام الماضية في مناطق عديدة من العالم ليس في مصر وحدها.
المحزن أن هناك من وسائل الإعلام التي كان يشار إليها بالبنان في التزامها بقواعد المهنة على رأسها BBC ورويترز وغيرهما من ضرب بهذه المهنية عرض الحائط؛ على الرغم من أن الحادث فرض حالة إدانة واسعة على أوسع نطاق دولي في ما يشبه الإجماع على وصف الحادث بالإرهابي
مكان العملية لم يكن مسرح عمليات أو مواجهات عسكرية أو حتى ثكنة عسكرية، بل هو أكثر الأماكن سلاما هو دار عبادة، هو بيت الله هو المسجد الجامع الوحيد في تلك القرية، وهذا إن دل فإنما يدل على القدر الكبير من الجبن والخسة التي تصم أولئك السفاحين الأوباش "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها" -صدق الله العظيم- ما عادوا قادرين حتى على مواجهة المدنيين الآمنين العُزّل وجها لوجه؛ فغدروا بهم وهم ساجدون. ولو أخذنا في الاعتبار الموقع الجغرافي فبئر العبد قرية معظم قاطنيها من قبيلة السواركة التي نقل عنها أنها رفضت من قبل إيواء متطرفين ومطلوبين للأجهزة الأمنية بين ظهرانيهم، أضف إلى ما سبق قرب المنطقة المستهدفة من قطاع غزة وتحديداً معبر رفح الذي شهد منذ أيام أول افتتاح رسمي بعد أن نجحت مصر في ملف المصالحة بين الفرقاء الفلسطينيين، وقطعت شوطاً كبيراً فيه وصولا إلى فتح المعبر الذي يعد أحد أبرز معالم هذه المصالحة.
التحليلات التي ذهبت إلى أن المسجد الذي تم استهدافه كان يتبع لإحدى الطرق الصوفية فلذلك تم استهدافهم لأنهم لا يتفقون مع السلفيين الجهاديين التكفيريين. ربما تكون صحيحة لكنها أقرب ماتكون إلى الفتوى أو الذريعة التي ساقها من أمر تلك المجموعة الجبانة بالتنفيذ، وعلى أي حال فإن كل هذه المعطيات تؤكد أن من يخطط لهذه العمليات فاق الشيطان في خبثه، يريد من جهة بث الرعب بين أبناء قبائل سيناء ويفتنهم فيما بينهم، ومن جهة أخرى يريد أن يرضي أسياده الممولين.
أولئك الملعونون يكررون شيئاً جربوه سابقاً يتمثل في ابتزاز وسائل الإعلام المحلية والعالمية عبر إرغامهم على تسليط الضوء على أعمالهم الخسيسة والدنيئة للتسويق لبضاعتهم الكاسدة في هذه الفترة من كل عام، أملا في التأثير داخليا وخارجيا بهدف الانتقام ممن فوت عليهم الفرصة، وتنفيذا لما يتقاضون عليه أجرهم، والمحزن أن هناك من وسائل الإعلام التي كان يشار إليها بالبنان في التزامها بقواعد المهنة، على رأسها بي بي سي ورويترز وغيرهما من ضرب بهذه المهنية عرض الحائط؛ على الرغم من أن الحادث فرض حالة إدانة واسعة على أوسع نطاق دولي في ما يشبه الإجماع على وصف الحادث بالإرهابي. نعم هذا اسمه إرهاب.. والأمر الذي يبعث على التساؤل حول مغزى هذا التعمد في التقليل من حجم الكارثة باستخدام أوصاف تضفي قدراً من الشرعية لهذه الأفعال الشاذة، في وقت تروّج فيه لمصداقيتها بوقوفها مع الإنسانية وحق الإنسان في الحياة، والعقل والمنطق يقولان إنه لاحياد مع الإرهاب ولاحياد مع الظلم، وهم بفعلتهم هذه إنما يؤرّخون لانتهاكهم معايير العمل الصحفي والإعلامي التي طالما تشدقوا بها، ويعلنون انحيازهم الصريح للإرهاب، وباتت الحاجة ملحة لإعادة صياغة تفاصيل تلك المعايير وتحديد ضوابطها بالنسبة للإعلام العربي والدولي على حد سواء.
يوما بعد يوم تزداد الحاجة للعمل الجاد والمكثف لفضح وتعرية هذا الفكر الخبيث بمختلف الجهود، وعلى كافة المسارات وفي كل المجتمعات العربية وغير العربية، فالإرهاب لايعرف حدودا أو جنسيات بل هو عدو مشترك للإنسانية جمعاء، والمسؤولية كبيرة على عاتق الحكومات والمنظمات والأفراد لإنقاذ هذا الجيل الذي استشرى هذا الفكر الخبيث بين أبنائه، وإن كان الأولى تكثيف المجهودات والحلول الأمنية والاستخباراتية في هذه الفترة الحرجة التي تشهد مساسا مباشرا بأمن وسلامة الإنسان وحقه المطلق في الحياة، لأن الحلول الفكرية لابد من أن تكون مستمرة وعلى المدى البعيد ولكن بالتزامن مع تحييد الدول للعناصر التي تشكّل خطورة على سلامة المجتمعات، ألا نفعل جميعنا ذات الشيء حين نفاجأ ببعض التفاح الفاسد بين كومة من التفاح الصالح مخافة أن يلحق الفساد بالبعض الآخر من الكومة! وهل يجرؤ أحدنا على إعادة أي مما فسد إلى الكومة؟ بالطبع لا إنه مبدأ نبيل أن يعدم كل (ما) يتعدى ضرره ليطال حياة غيره للحفاظ على حق ذلك الغير في الحياة. ولا يستحق أولئك المرجفون أكثر من أن يشار إليهم كما يشار إلى غير الإنسان، فالإنسانية منهم براء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة