أردوغان نجح بعدوانه على شمال شرقي سوريا في تفكيك تحالف الأمة الانتخابي الذي نشأ لمناهضته وإسقاطه.
في معرض تحليلات الكتاب والمحللين السياسيين لأهداف الغزو التركي لشمال شرقي سوريا، تجاهل الجميع الأبعاد الداخلية لهذا الغزو، في حين شكل هذا الأمر الهدف الأساسي لأردوغان من أجل ترتيب المشهد الداخلي التركي بعد الهزيمة المدوية التي مني به حزبه الحاكم (العدالة والتنمية) في الانتخابات المحلية التي جرت في مارس الماضي، والغريب أن المعارضة التركية القومية والإسلامية انساقت لمخططه سواء بوعي أو من دونه.
تبدو لعبة أردوغان أتت أكلها في الداخل التركي، فصوت المعارضة ضده لم يعد مسموعا، وفرصتها (المعارضة) بعد الانتخابات البلدية في الدعوة إلى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة تبخرت، وبات الانقسام في صفوفها من جديد سيد الموقف
بداية، لا بد من القول إنه لا أحد في العالم مقتنع بالحجج التي ساقها أردوغان لتبرير عدوانه على شمال شرقي سوريا باسم عملية (نبع السلام)، فقوات سوريا الديمقراطية (قسد) لم تهدد تركيا يوما من الأيام، كما لم تقم طوال السنوات الماضية بأي هجوم ضدها، وإنما على العكس تماما خدمت تركيا كما العالم أجمع عندما ضحت بعشرات آلاف الشهداء والجرحى للقضاء على داعش، كما أن مزاعم أردوغان بشأن إقامة منطقة آمنة لإسكان اللاجئين السوريين باتت مفضوحة ومكشوفة، فهو جعل من آلام هؤلاء ورقة للابتزاز السياسي والمتاجرة بهم في كل الاتجاهات، وإذا كان هدفه الخارجي هو القضاء على الحالة الكيانية السياسية الكردية التي تشكلت على الحدود هناك واحتلال المزيد من الأراضي السورية، فإن أهدافه الداخلية كثيرة وأساسية، والتي تتلخص بعدة نقاط جوهرية، لعل أهمها:
1- إن أردوغان وبعد الهزيمة المدوية لحزبه الحاكم في الانتخابات البلدية ولاسيما بلدية إسطـنبول التي قال هو بنفسه إن من يحكمها يحكم تركيا، أراد قلب الطاولة على المعارضة تحت شعار حماية الأمن القومي التركي من الخطر الكردي، وهذه قضية أيديولوجية تراكمية في العقل السياسي التركي منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، إذ يجتمع القومي والإسلامي والعلماني على هذه القضية. وعليه أيدت المعارضة التركية العلمانية (حزب الشعب الجهوري) والقومية (الحزب الخير أو الجيد) والإسلامية (حزب السعادة) هذا العدوان.
2- إن أردوغان نجح بعدوانه على شمال شرقي سوريا في تفكيك تحالف الأمة الانتخابي الذي نشأ لمناهضته وإسقاطه، وهكذا خرج الحزب الخير القومي من التحالف المذكور، فيما أدى تأييده وحزب الشعب الجمهوري للعدوان إلى عزوف حزب الشعوب الديمقراطية الموالي للكرد عن التحالف، خاصة أن المعارضة التركية بقيت صامتة إزاء حملات القمع والاعتقال ضد كرد تركيا من نواب ورؤساء بلديات وقادة أحزاب، كما أن الغزو التركي عزز من مشاعر العداء للكرد في الداخل على خلفية قومية، الأمر الذي زاد من الانقسام الداخلي، وهو ما يستفيد منه أردوغان لزيادة شعبيته على أساس شعبوي، ولعل استطلاعات الرأي التي تقول إن مستوى التأييد له وصل مؤخرا إلى أكثر من أربعين بالمئة بعد أن تراجع عقب الانتخابات البلدية إلى أقل من ثلاثين بالمئة خير دليل على ذلك.
3- إن أردوغان بهذه الخطوة أوقف مسلسل التفكك والانهيار في صفوفه، ولا سيما بعد انشقاق كل من أحمد داود أوغلو وعلي باباجان عنه، وإعلانهما العزم على تأسيس حزبين جديدين مناهضين لأردوغان، فضلا عن موجة استقالات جماعية في صفوف الحزب والتي تقول التقارير إن أعداد الذين استقالوا منه بعد الانتخابات وصلت إلى مليون عضو، وهو ما كان يهدد حزب العدالة والتنمية الحاكم بالانهيار.
4- رغم نجاح أردوغان في الحد من دور المؤسسة العسكرية التركية التي هي من أعرق وأهم المؤسسات التركية، فضلا عن زرعه الموالين له في قيادات الجيش إلا أن الثابت أن أردوغان يعيش بشكل دائم هاجس الانقلاب العسكري ضده، وعليه ثمة اعتقاد واسع بأن أردوغان يسعى وبشكل دائم إلى إشغال الجيش بمعارك خارجية على الحدود، تارة في سوريا وأخرى في العراق وثالثة مع أرمينيا ورابعة مع اليونان.. وهكذا للتحكم بحركة الجيش وإبعاده عن المشهد الداخلي وأبعاد شبح الانقلاب عليه.
في الواقع، تبدو لعبة أردوغان أتت أكلها في الداخل التركي، فصوت المعارضة ضده لم يعد مسموعا، وفرصتها (المعارضة) بعد الانتخابات البلدية في الدعوة إلى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة تبخرت، وبات الانقسام في صفوفها من جديد سيد الموقف، فيما زاد أردوغان من بوابة العدوان والتعبئة القومية من رصيده في الداخل.. إنها لعبة يجيدها أردوغان جيدا لقلب الطاولة على خصوم الداخل، فالحرب على الحليف السابق زعيم حركة الخدمة فتح الله غولن وأنصاره بتهمة التورط في المحاولة الانقلابية الفاشلة، كما الحرب ضد كرد سوريا باسم الأمن القومي التركي ومكافحة الإرهاب، ما هي إلا منهجية أردوغان في الانقضاض على خصوم الداخل وتشتيت صفوفهم للبقاء في سدة الحكم أطول مدة ممكنة.. إنها بوصلة أردوغان التي لا تحيد أبداً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة