المشكلة في المعايير الحقوقية والإنسانية الغربية هي أن السياسيين يقومون بتشريعها على سبيل النفاق لتحسين صورتهم الانتخابية، بينما يصدقها الناس، رغم أنها خداع.
وعندما تحدث مفارقة من قبيل وقوع انتهاكات، ويتردد السياسيون في الامتثال لمعاييرهم، ويقدمون لأنفسهم التبريرات، فإن الناس يقعون في حيرة حول ما إذا كان يمكن التمسك بتلك المعايير أو ما إذا كان يمكن التواطؤ مع التبريرات.
والسياسيون عادة ما يكونون هم الفائز، لأنهم يسخّرون لأغراضهم كل وسائل الدعاية والتأثير، فضلا عن قوة القانون والقسر، لكي يحصدوا المزيد من القبول لتبريراتهم. هذا هو السبب الذي يجعل كل دول الغرب تنطق بلسانين، وتمارس "معايير مزدوجة".
ففي الحالات التي تعلو فيها الحاجة لتلميع الصورة، تتقدم القيم الإنسانية على أنها ذلك الشيء الحلو الذي يميز وجه السياسة. لكن عندما تتقدم المصالح، تبرز المخادعات التي تحاول أن تفسر كيف أصبح من المقبول التخلي عن تلك القيم.
وعادة ما تكون المخادعات، حسب كل حالة بمفردها، ما يُضفي على تلك المعايير طابعاً شديد الانتهازية. من ناحية، لأن نماذج الانتهاكات لا تشبه بعضها أو تقع في مناطق بعيدة، ما يجعل من السهل غض النظر عنها. ومن ناحية أخرى، لأن المعايير والقيم الإنسانية، لم تحتل موقعاً في القانون يتسم بالصرامة؛ أي ليس كمثل أن يُحكم القاتل بالمؤبد، أو اللص ببضع سنوات من السجن. كما لا توجد صرامة قانونية عندما يتعلق الأمر بانتهاكات عريضة أو جماعية. هكذا يسهل أن تتميع القيم وتذوب المعايير إن لم تختفِ كلياً.
الالتباس في تفسير القيم وتطبيقاتها الحقوقية، يصبح بهذا المعنى، مفيداً بحد ذاته. لأنه يبرر الجمع بين الشيء وعكسه، كما يبرر الالتزام وعدم الالتزام بالمعايير.
الموقف من جرائم إسرائيل وانتهاكاتها، ليس حالة فريدة على الإطلاق. هذا الموقف يتأثر بطبيعة الحال بنفوذ الصهيونية السياسية السائدة في الغرب، إلا أن "التوظيف المزدوج" للقيم الإنسانية، وجعل معاييرها مزدوجة، يتماشى مع حاجة البراغماتية السياسية نفسها في كل القضايا الأخرى.
فكرة أن السياسيين في الغرب منافقون، صفة لا تزعجهم كثيراً. لأن النفاق جزء من "عدة الشغل" في تدبير الحلول والمخارج من الأزمات والمشكلات التي تواجههم في السلطة وخارجها. وحقيقة أن "التسويات" و"الحلول الوسط" أمر مطلوب دائماً لذلك التدبير، فهي تعني أن "التنافق" يصبح عملاً جوهرياً من طبيعة السياسة وطبيعة إدارة أعمالها. أما كيف يتم تغليف هذا التنافق، فهو أمر يعتمد على الكفاءات الفردية للسياسيين، الذين كلما كان واحدهم أشطر من سواه، صارت فرصه في اللمعان أفضل.
ما نعتبره نحن نفاقاً، وبالتالي عيباً أخلاقياً، لا ينظر إليه في الغرب على أنه كذلك. بالعكس. ينظر إليه على أنه شطارة، إذا أُحسن تقديم التبريرات له.
الناخبون بدورهم، عمليون جدا. إنهم ينتظرون المنافع. فالسياسي حتى ولو كان فاقعاً في تغاضيه عن الانتهاكات التي تحدث "هناك"، وطالما ظل قادراً على أن يرفع المداخيل ويخفض البطالة، فإن التواطؤ معه يصبح معقولاً ويمكن تبرير تنافقاته كلها.
في هذه البيئة، يمكن للمنظمات الإنسانية والحقوقية أن تصرخ. كما يمكن أن ترمي السلطة والمجتمع بهذا الصراخ في أقرب سلة للمهملات.
هذا هو حال منظمة مثل "بتسليم" في إسرائيل، و"هيومان رايتس ووتش" في الولايات المتحدة، وغيرهما في دول أخرى. ويجب ألا تستغرب، كيف تقوم سلطة النفاق نفسها، في توفير الدعم لهذه المنظمات لأجل أن تبقى تصرخ. وتظل في الوقت نفسه طرفا من أطراف الهامش والظلال.
دائرة النفاق لا تكتمل، إلا من خلال إبقاء هذا الصوت مسموعا وعديم القيمة في الوقت نفسه. إنه مسموع، لكي يُرضي الناخبين الذين صدقوا لعبة تحسين الصورة. وعديم القيمة، لأن للمصالح حساباتها. وهي حسابات لا تتعلق بالصورة، وإنما بالمنافع، التي تهم ناخبين آخرين.
نحن نتأثر في العادة بما يعنينا. وهذا ما يجعلنا نعول كثيرا على ما تقوله تلك المنظمات، ونعتقد أن ما تقوله ذا قيمة، أو أنه عامل من عوامل الضغط على صانع القرار. وهذا غير صحيح.
صانع القرار يحسب حساب المنافع أولا. فإذا حدث بالصدفة أن توافقت منافعه مع القيم الإنسانية، زاد في استخدامها لأغراض تلميع الصورة. وإذا لم يحدث، أوجدت له المنافع ما يسعف الزيادة في التبريرات.
الغرب منافق بطبيعته. هذا ما يجب أن يؤخذ بالحسبان. والنفاق مقوم أساسي من مقومات رعايته لمصالحه. بل إنه صورته الوحيدة، التي تستوجب التلميع باستمرار.
الأصوات الداعية لاحترام حقوق الإنسان وحماية المدنيين ضرورية للغرب، مثلما هي ضرورية الصواريخ والطائرات التي تقتل المدنيين بالجملة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة