أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية أن الحروب بالوكالة تفرض معادلة مزدوجة تقوم على مبدأ المنفعة المتبادلة.
فمقابل الأعباء الوظيفية التي تقع على الطرف الذي يتبنى رفع راية القتال، دفاعا أو هجوماً، ويبدي استعداده لتحمل تبعاتها ولتوفير متطلباتها، يتعهد الطرف الآخر الذي ينتفع منها وبها، بتوفير جميع مستلزمات تسعير المعارك وتأجيجها، فالجانب الأوكراني بعد أن عاين الرغبة الجامحة لدى داعميه من دول حلف شمال الأطلسي وتتقدمها الولايات المتحدة، لمقارعة روسيا ومنازلتها عبر بوابته، فرض على اقتصادات البلدان الأطلسية المعنية بالمنازلة التزامات ببعدين.
الالتزام الأول تمثل في وجوب توفير الدعم السخي لآلة الحرب ولاقتصاد الحرب بلا تلكؤ أو تردد للتمكن من مواصلتها، وتم ربط ذلك الواجب بفزاعة الانكسار أو التقهقر المحتمل على الجبهة الأوكرانية أمام جحافل روسيا، وما قد يترتب على ذلك من هزيمة استراتيجية ليس للجانب الأوكراني فحسب، بل لمشروع التوسع الأطلسي برمته من ناحية، وما قد تحدثه من تصدع لنزعة الهيمنة الأمريكية على العالم وربما تحطيمها إلى الأبد من ناحية أخرى.
أما البعد الثاني فأخذ مفعولاً عكسيا حين ارتد التزام الغرب بعملية تغذية مخازن السلاح الأوكراني متعدد الصنوف تحت ضغط الفزاعة الأوكرانية المقلقة لهم، إلى داخل مجتمعاتهم التي تأثرت بسياسات تقشف غير مسبوقة في تاريخهم المعاصر، وأحيت لدى بعض العواصم الأوروبية نزعة العسكرة وخصصت لتوسيعها جزءاً كبيرا من ميزانياتها على حساب رفاه مواطنيها وتنمية مجتمعاتها المستدامة.
وقعت أوروبا في أسر هذه الحرب مرغمة بفعل عاملين ضاغطين يتعلقان بأمن دولها، مجتمعة أم متفرقة، العامل الأول نابع من صوت العقل الباطن لدى ساسة أوروبا الغربية ومواطنيها، الذين استسلموا لفرضية خطر الغول الروسي عليهم، والخشية من ابتلاعهم، دولا وبشرا، مستحضرين حقب التنافس والصراع التاريخية منذ عصر القياصرة إلى البلاشفة حتى وقتنا الراهن، فكان لا بد من إمداد كييف بمختلف سياقات الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، وتوظيف ماكيناتها الدعائية لخدمة الحرب نفسيا ومعنويا ضد الخصم الروسي.
وقد سنحت لهم الفرصة كي يخوضوا الحرب من خلف ستار وبجنود ليسوا من تابعياتهم، وعلى أرض ليست أرضهم، أما العامل الضاغط الآخر فمصدره حليفتهم الأقوى، الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا العامل وجهان؛ الأول أمريكي ذاتي حيث اقتنصت واشنطن فرصة الحرب لدفع الأوروبيين إلى الاصطفاف خلفها مستغلة قلقهم الكامن في لا شعورهم حيال روسيا، في حين يتمظهر الوجه الثاني في حالة الوهن الذي تسلل إلى جسد القارة الأوروبية ومفاصلها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، فرضيت بأن تكون تحت عباءة الحماية الأمريكية، النووية والتقليدية، رغم وجود دولتين أوروبيتين ضمن النادي النووي للقوى الخمس الكبرى، وهما بريطانيا وفرنسا، فأفقدتها تلك التبعية القدرةَ على المبادرة الذاتية، الدفاعية والهجومية، وقلصت هوامش استقلاليتها في معالجة قضايا أمنية أوروبية داخلية كما حدث في الحرب اليوغسلافية تسعينيات القرن الماضي حين انضوت أوروبا تحت القيادة الأمريكية للعمليات القتالية على أرضها.
أمام هذه المحددات الصارمة لإدارة الصراع، والتشدد الذي تبديه أطرافه في مطالبها حيال بعضها، وغياب أي شكل من صيغ المبادرات بشأن وضع حد له، هل من أفق لنهاية الحرب الروسية الأوكرانية، وكيف ستكون النهاية وما هي شكلها؟ حرب غزة حجبت، مؤقتاً الرؤية عن ميادين صراع عديدة، من بينها ميدان الحرب الروسية الأوكرانية ذات الخصوصية الاستراتيجية لقطبي الصراع الفعليين، روسيا والولايات المتحدة.
العقبات والتعقيدات على طريق وضع حد للحرب الدائرة تتغلب، حتى الآن، على ظروف ومناخات التسوية بين الجانبين لأن القوى الدولية المؤثرة والمرشحة للعب دور الوساطة، الصين أو تركيا أو الأوروبيين، باتت في خانة عدم الحياد إما بنظر واشنطن والغرب كالصين، وإما من وجهة نظر روسيا كالأوروبيين، في حين بقيت تركيا تنوس بين الأطراف كافة دون دور فاعل بعد فشل جهودها في تجديد اتفاقية تصدير القمح مجددا، علاوة على رغبة واشنطن في استثمار الحرب لإضعاف روسيا على المدى البعيد، وانخراطها الفعلي لتوفير مقومات ومستلزمات تحقيق هدفها، خاصة في ظل طرح بعض دوائر التحليل الاستراتيجي الأمريكي فكرة تقسيم روسيا بعد استنزافها في حرب أوكرانيا، والتي تبدو من حيث المبدأ فكرة طوباوية مرادها الإبقاء على عملية ضخ الحماس في شرايين أعداء روسيا التاريخيين.
الحقيقة الثابتة أن استمرار الدعم الأمريكي–الغربي لكييف سيؤجل كثيرا حلول السلام، والإصرار الروسي على إجهاض مشروع انضمام أوكرانيا إلى الناتو، والذي تعتبره موسكو تهديدا وجوديا لها، سيبقيان الأصابع على الزناد إلى أجل بعيد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة