أوروبا، لمن يعرفها، قد تمنحك عيشا، إلا أنها لن تمنحك حضنا دافئا. أما العيش الكريم فمشروط بما تعطيه، لا بما تتخيل أن تأخذه.
وهم الرخاء المسبق يحسن أن يزول. وهو وهم لا يستحق المخاطرة بالحياة من أجله.
تعيش كريما في أوروبا، فقط، عندما تكون ناجحا في مهنة من المهن، أي عندما تمتلك أدوات للعيش الكريم، وتدفع حصتك من الضرائب. دون ذلك، لا تحلم. وعندما تملك تلك الأدوات، فقد لا تحتاج إلى الهجرة أصلا. أو على الأقل، سوف يكون بوسعك أن تتعامل مع الموضوع بعقلانية أكبر.
ألمانيا، التي استقبلت منذ عام 2014 نحو مليوني مهاجر، تقول الآن إنها بحاجة إلى 1.7 مليون شخص إضافي من العمال المهَرة. وبقاء وظائفهم شاغرة يكلف البلاد نحو 85 مليار دولار سنويا من الناتج الإجمالي.
ويصح الأمر نفسه، بمقدار أو آخر، على كل الدول الأوروبية، التي وإن كان اليمين المتطرف فيها يصدح بمعاداة الهجرة، فإنه سوف يلطم البلاد على وجهها عندما تعجز صناديق التقاعد عن الحصول على تمويلات جديدة من عمالة شابة، بينما ترتفع تكاليف التقاعد، وتزداد الأعمار طولا، وتنحسر القدرات على توفير العمالة اليدوية التي تتطلب جهدا.
المؤسسات المعنية بالتوظيف في ألمانيا تقول إن المجالات المطلوبة للعمالة الماهرة تشمل العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والمهن الصحية، وخدمات الضيافة وعمال خدمات الشحن في المطارات، وعمال السكك الحديدية.
وبينما تستورد بريطانيا ممرضين وممرضات من كل أرجاء العالم، فإن أوروبا كلها تعاني من نقص حاد في سائقي الشاحنات، وغيرها من مجالات العمل التي تجمع بين المهارات اليدوية والخبرات العملية.
ماذا يعني ذلك؟
إنه يعني أن الطريق إلى أوروبا مفتوح بالمهارة والخبرة. وهو مما لا يتطلب مغامرة بالحياة أو تورطا مع تجار بشر يمارسون التهريب.
لا تحتاج إلى أن تتخرج من جامعة هارفارد لكي تكون كهربائيا يحقق دخلا سنويا أكثر مما يحققه الطبيب في بريطانيا أو ألمانيا.
وبالتأكيد، لا تحتاج إلى أن تركب قاربا يغرق بك في عرض البحر، لكي تبحث عن سبيل لعيش كريم في أوروبا، فيتحول إلى موت غير كريم.
أنت بحاجة إلى معهد تأهيل مهني، وليس إلى قارب. وبدلا من أن تجمع المال لتعطيه لمُهرّب، فإنك بحاجة إلى أقل منه ربما لكي تبدأ اكتساب الخبرة في المجال الذي تختار أن تعمل به.
لا تحتاج إلى الكثير لكي تصبح سائق شاحنة، إذا ما كنت تحمل رخصة قيادة. طرق أوروبا كلها سوف تكون مفتوحة أمامك لتجول فيها بالطول والعرض. لكن الجهل هو الذي يقود المرء إلى الطرق الملتوية والوسائل الجاهلة.
الحاجة إلى العمالة الماهرة لن تتراجع أيضا. الأوروبيون لن يعوضوا ما يواجهون من نقص في السكان، ربما ولا حتى بعد عقدين من الزمن. وبالتأكيد، ليس قبل أن تتغير نظرتهم إلى الحياة الأسرية. وهذا أمر تقف دونه حوائل عدة.
التقدم بطلب لائق للحصول على عمل في ألمانيا بتقديم الأدلة على المهارة والخبرة والقليل من اللغة، سوف يتيح لك وظيفة مسبقة وتذكرة طائرة وسكنا ومدرسة لإتقان اللغة.
السفارات الألمانية هي التي تبحث الآن عن أولئك العمال الذين تحتاج إليهم قطاعات الاقتصاد المختلفة. وربما تفعل سفارات دول أوروبية أخرى الشيء نفسه.
شهادة معهد تأهيل مهني لن تكلفك وقتا يزيد على سنتين. ولقد جرت العادة أن يكون القبول في معاهد التأهيل المهني أسهل من القبول بالجامعات.. وهناك كثير أيضا من مراكز التأهيل المهني ذات الطبيعة التجارية.. أما التعليم عن طريق الإنترنت، فحدّث ولا حرج.
يمكنك أن تتخرج، بهذه الوسيلة، من معاهد أوروبية أصلا، وأن تبدأ اكتساب الخبرة وأنت في بلدك، فتجمع مجد السعي الكريم من طرفيه.
مجتمعاتنا تستحوذ على مَيزات لا توفرها المجتمعات الأوروبية. التضامن الأسري، عالم فيه من السحر ما لا تدرك قيمته إلا عندما تخسره. أوروبا قد تمنحك أي شيء، إلا أنها لن تمنحك حضنا دافئا. أبدا. هذا ليس من طبيعة الحياة هناك.
وهو ما قد يعني أنك تستطيع أن تؤهل نفسك لحياة أخرى، انطلاقا من كرم التضامن الأسري الذي تملكه.
يقول بعض فلاسفة الاقتصاد إنه لا يوجد فقير لا يملك شيئا.. أنت تملك إرادتك على الأقل وقدرتك على العمل.. حتى وإن كنت لا تملك سقفا، فلسوف تجده.
قد يبدو الطريق طويلا. ولكن الطريق نفسه هو الخبرة! وقد تواجه الكثير من المشاق وأنت تبني معارفك في الحقل الذي تود الانخراط به، إلا أن هذه المشاق هي ما سوف يصقُل شخصيتك ومهاراتك. والمشاق ربما تكون من العمق بما يكفي لكي تعيد بناء تصورك عن سبل العيش.
قد تعتقد أن الحياة الكريمة موجودة في أوروبا. إلا أنها موجودة في الواقع تحت قدميك، أينما كنت.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة