الإعلامية صورية بوعمامة: الإرهاب وضع أكفانا أمام بيوت صحفيين بالجزائر
كشفت الإعلامية الجزائرية صورية بوعمامة حقائق مثيرة عن جرائم الإرهاب فترة التسعينيات في بلدها ضد الصحفيين.
وروت صورية بوعمامة في مقابلة مع "العين الإخبارية" قصصا عاشتها وعاصرتها، في فترة توصف بأنها أسوأ مرحلة مرت بها الجزائر في تاريخها الحديث.
حقائق شكلت منعطفاً حاسماً في مشوار واحدة من أقدم صحفيات التلفزيون الجزائري الرسمي، لُقبت بعدها بـ"سيدة الإعلام الجزائري" و"الإعلامية الحديدية".
مشوار حافل قطعته "بوعمامة" في الإعلام، من التقديم الإخباري للنشرات، إلى البرامج الحوارية، ثم إلى الوثائقيات المثيرة عن صناعة الإرهاب، كانت خلالها واحدة من أبرز الصحفيات الجزائريات اللواتي هزمن الإرهاب وتحدين الموت، لتعيد أمجاد مناضلات الثورة التحريرية الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي عندما كانت المرأة سندا للرجل في الدفاع عن الأرض والعرض.
- صيد ثمين بقبضة الجزائر.. التنظيمات الإرهابية تلفظ أنفاسها
- رحيل الفنان الجزائري بشير بن محمد.. ابتسامة هزمت الإرهاب
ورغم بشاعة تلك الحقائق، إلا أن الابتسامة لم تفارق وجه إعلامية عشقت بلدها الجزائر ومهنتها كما لم تعشق سواهما، كانت تلك الابتسامة كما قالت لـ"العين الإخبارية" سلاحاً قوياً في وجه الإرهاب الأعمى الذي ضرب الجزائر نهاية القرن الماضي، وعرفت بـ"العشرية السوداء" و"المأساة الوطنية" راح ضحيتها زهاء ربع مليون جزائري.
وكان للصحفيين نصيب من جرائم الإرهاب، استهدف منهم 53 صحفياُ بالتلفزيون الرسمي وصحف حكومية وخاصة، فيما نجا المئات من حقدهم، كانت من بينهم الإعلامية صورية بوعمامة.
وضع الخوف من المستقبل الغامض للجزائر بصمته على الإعلامية بوعمامة، وجعلها صحفية جريئة كما يقول المقربون منها وكل من عمل معها خلال تلك الفترة السوداء، فقد تحدت الموت وحقد وجهل الجماعات الإرهابية وأصرت على البقاء في بلدها وفي مؤسسة إعلامية كأنها جيشاً آخر قهر الإرهاب بالجزائر، وغرس في المقابل الأمل في نفوس الجزائريين، وفضح مزاعم إقامة "دولة الخلافة".
انتقلت في مشوارها المهني من الخوف من الإرهاب إلى تحديه، ثم اختراقه، عندما شاركت في إعداد وثائقي للتلفزيون الجزائري الحكومي عن "القواعد الخلفية للإرهاب في أوروبا"، اعتبره الأخصائيون "ثورة إعلامية في وجه الإرهاب"، لتترك بمشوارها المثقل بالتحديات والمصاعب والمخاطر والإسهامات بصمة خالدة في الإعلام.
وفي 2013، نشرت الإعلامية صورية بوعمامة أول كتاب من نوعه لصحفي جزائري تضمن شهادات وحقائق مثيرة عن تاريخ الإرهاب سنوات التسعينيات بعنوان "أوراق لم تكن للنشر"، صورت من خلاله ما عاشه الصحفيون الجزائريون خلال العشرية السوداء، وكيف نقل الإرهابيون المعركة إلى داخل التلفزيون الجزائري، قبل أن يتحول الإعلام إلى واحد من الآلات الحاسمة التي دمرت التطرف الذي عاشته الجزائر لعشرية كاملة.
وفي هذه المقابلة الخاصة، كشفت الإعلامية الجزائرية صورية بوعمامة حقائق مثيرة وصادمة عاشتها خلال فترة الإرهاب الذي ضرب الجزائر، وكيف ساهم الإعلام في نقل الجزائر إلى بر الأمان، وعن واقع الإعلام في بلدها.
نكبة النكبات
"أوراق ليست للنشر".. ما الذي لم ينشر في هذا الكتاب الأول من نوعه بعد أكثر من 30 عاماً في العمل التلفزيوني؟
قد لا تكفي مجلدات للحديث عن ظروف العمل الصعبة والمرهقة نفسياً بالنسبة للصحفيين الجزائريين خلال العشرية السوداء.
عشنا جحيماً لا يوصف، وهنا لا نستثني كل فئات الشعب، لكن أن تكون صحفياً ومعروفاً فهي نكبة النكبات، وبالتالي هناك تفاصيل تفوتنا دائما لا نتذكرها إلا بعد فوات الأوان.
وهناك بعض الأوصاف المتطرفة الحاقدة للجماعات الإرهابية التي دونتها وحذفها مقص الرقيب لأننا كنا نعيش أجواء المصالحة الوطنية التي لا تسمح بذلك.
والكتاب تطرق إلى فترة محددة في الزمن من حادثة "قمار" في نوفمبر/تشرين الثاني 1991 وتغطية التلفزيون لها، إلى 2000، وهي الفترة التي عرفت أحداث ما عرف بسنوات الفوضى والجنون.. سنوات الإرهاب أو العشرية السوداء أو العشرية الدموية.
كفن الإرهاب
كنت من بين الإعلاميات الجزائريات اللائي تعرضن للتهديد اللفظي وحتى بالتصفية الجسدية من قبل الجماعات الإرهابية.
كيف واجهت تهديدات الإرهاب في تلك الفترة، وأي نوع من الخوف عاشته الفتاة صورية: الخوف من الموت أم العيش في خوف؟
كانت المعيشة لا تطاق في تلك الفترة.. كيف يمكن أن تعيش ورسائل التهديد والوعيد تصلك يومياً وتطلب منك تحضير كفنك، وهناك بعض الزملاء وجدوا كفنهم أمام عتبة بيوتهم.
.كانت أياماً سوداء لا توصف، خاصة وأنت تسأل نفسك كل دقيقة: "من سيكون الاسم التالي، من الضحية القادمة، بأي طريقة سأقتل، هل سأقتل بالرصاص أم بالذبح؟"، كنا نتمنى بل ندعو من الله عز وجل ألا نقع أسرى بين أيديهم ونذبح.
نحن بشر نهاب الموت، وكنا نعيش في خوف دائم، وهناك عدة عمليات إرهابية كانت ستقع ضدنا لكن تم إحباطها قبل قوات الأمن وهي موثقة لديهم، لكن كان سلاحنا الوحيد الإيمان بالقدر وبالله سبحانه وتعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
ما قصة الحجاب الرث والنقاب الذي رافقكم سنوات العشرية السوداء؟
كان لزاماً علينا أن نخلق لأنفسنا وسائل حماية والحاجة أم الاختراع، فاهتديت إلى الحجاب و(العجار) لأخفي وجهي بحكم معرفة الجمهور لي، فقد كنت مستهدفة وفي قائمة المحكوم عليهم بالموت.
وهذا هو الفرق بين صحفي معروف وآخر غير معروف، وكل واحد وحيلته هناك من وضع قبعة، وهناك من أطلق لحية.
بكلمة أخرى، كنا صيدا سهل المنال للإرهابيين، وبالتالي كنت أرتدي الحجاب حتى أتنقل بسهولة، وحتى وأنا بالحجاب كان الخوف يلازمني باستمرار.
حقد الإرهاب
لماذا ركزت الجماعات الإرهابية في عملياتها الإجرامية على استهداف الصحفيين بالجزائر خلال تلك الفترة؟
لقد أبدت الجماعات الإرهابية منذ البداية عداء كبيرا للصحفيين، ووصفتهم بكل الأوصاف السيئة، من الطغاة إلى الخونة والأوغاد والكفرة والمرتزقة و أزلام النظام.
هذا الحقد جعل هذه الجماعات تستغله لصالحها بخلق الأثر الترويجي لأعمالها الإرهابية، طريقة لزرع الخوف والتشهير واستعراض العضلات بزرع الرعب وعدم الاستقرار .
محطات مصيرية وأخرى مؤثرة عاشتها الإعلامية بوعمامة في التقديم التلفزيوني، من أبرزها قراءة بيان إلغاء المسار الانتخابي سنة 1992، ونعي زملاء لها استشهدوا وغيرها. هل كانت معاناة من نوع آخر، وكيف تمكنت من مواجهة الكاميرا في تلك اللحظات؟
كثيرا ما يذكرونني بخبر قراءة توقيف المسار الانتخابي، وكأنني من اتخذت القرار، عجب وجهل واستخفاف بعقول الناس.
للأسف عامة الناس لا تفرق بين قراءة سكوب أو قراءة الخبر الذي غيّر مجرى تاريخ الجزائر وكلنا نعرف عواقبه وهو توقيف المسار الانتخابي والقرار السياسي والأمني للدولة الذي بثته في وسائل إعلامها الرسمية.
بشكل أوضح، لم أقم إلا بعملي كمقدمة أخبار، وكان هذا خبرا من أخبار النشرة، وأي صحفي عليه احترام الخط الافتتاحي للوسيلة الإعلامية التي يعمل بها.
لكن أخبار نعي الزملاء يومياً فقد كان عذاباً لا يطاق ومعاناة تلاحقنا في كل مكان، كانت النشرة أخبار موتٍ وقتل ودمار، لم نكن نصدق ما يحدث.
وكل خبر مقتل جزائري كان يحزننا وتدمع عيوننا له، كنا نبكي دماً ودموعاً على الجزائر أمانة الشهداء .
مما كشفت عنه في كتاب "أوراق ليس للنشر" طريقة انتقال الإرهاب إلى داخل التلفزيون الجزائري.. كيف ذلك؟
بالفعل، انتقل الرعب إلى قلب التلفزيون الجزائري وحاولوا نقل المعركة إليه لإسكات هذا المنبر الذي كان يفضح أعمالهم التخريبية ومشروعهم الفاشل في بناء دولة الخلافة على حد قولهم.
لقد فجروا قنبلة كانت خفيفة المفعول في قلب مبنى التلفزيون بمحاذاة الاستديوهات، وقطعوا البث التلفزيوني في المناطق الغربية لعدة ساعات وحاولوا بث برامج ترويجية لهم، كما أتلفوا بعض محطات البث التلفزي، لكن إرادة الحياة والاستمرار كانت أقوى من الموت.
ابتسامة الأمل
وسط كل ذلك التحدي والخوف، كانت الإعلامية بوعمامة تختم نشراتها الإخبارية أو برامجها بابتسامة.. كيف تمكنت من ذلك، وماذا كانت تمثل تلك الابتسامة عند الجزائريين؟
كما قلت إرادة الحياة كانت أقوى من الموت وإيماننا بالله (وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، كان قوياً وراسخاً.
كان الشعب الجزائري يرى في أدائنا استمرارا للحياة، ووميض أمل من تحت الرماد والخراب وأخبار الموت والحزن.
في كل مرة كنت ألتقي فيها الناس خارج العمل يقابلونني بالسلام والتحية ويشدون على كتفي ويقولون لي بالحرف الواحد: "إنكم تبعثون فينا الأمل، وكلما ظهرتم نقول الحمد لله الجمهورية مازالت قائمة".
من أجل كل ذلك كنا نبتسم لأننا كنا نؤمن بأن الجزائر التي حررها مليون ونصف المليون شهيد لن تركع أبدا للقوات الظلامية وأن إرادة الحياة ستنتصر.
قناة تلفزيونية واحدة (التلفزيون الرسمي) جابهت الإرهاب وأيضا ترسانة إعلامية أجنبية كانت تتساءل من يقتل من في الجزائر. .. من كان الخاسر والرابح في تلك المعركة متعددة الجوانب؟
كانت الجزائر تعيش نار الإرهاب من جهة، ووِزر الحصار الدولي المفروض عليها من الخارج، وهجمة إعلامية شرسة باسم من يقتل من. لقد قادت الجزائر حربها ضد الإرهاب لوحدها، وكانت المعركة متعددة الجبهات، لتأتي أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 لتؤكد بأن الإرهاب لا حدود له، وأن ما نبهت إليه الجزائر دوماً حدث في قلب أكبر دولة عالمية، وقد نطقت بذلك السيدة هيلاري كلنتون عندما قالت: "لا أحد يعرف شراسة الإرهابيين أفضل من الجزائر".
تضحية مزدوجة
خلال تلك الفترة هاجر الكثير من الصحفيين الجزائريين هرباً من جحيم الإرهاب، لكن الإعلامية صورية بوعمامة بقيت في الجزائر.. لماذا؟
من هاجروا لم يهربوا من الجنة، بل هربوا من الموت والدمار، هربوا من الجحيم، والأكيد أن وراء كل صحفي قصة مع الإرهاب.
لا اقارن نفسي بأحد، فلكل واحد منا ظروفه وقناعاته وطموحاته، تجمعنا المهنة بشكل أكيد ونختلف في مناحي كثيرة من الحياة.
أنا من اللواتي لا يتحملن العيش في الغربة والابتعاد عن العائلة والوطن هذا طبعي أسافر كثيرا، لكن أعود دائما للوطن وأنا أكثر شوقاً وحنيناً له.
في الوقت الذي هاجر فيه زملائك للخارج، تنقلت لأوروبا وأعددت وثائقياً مثيرا عن القواعد الخلفية للإرهاب في أوروبا ونال العديد من الجوائز.. حدثينا عن ذلك العمل التلفزيوني، وكيف انتقلت الصحفية صورية من خلاله من مرحلة الخوف من الإرهاب إلى اختراق الإرهاب؟
كنا 4 صحفيين، وكنت المرأة الوحيدة بينهم، نال هذا الوثائقي الكثير من المشاهدات والإعجاب، كمال فاز بالميدالية الذهبية في مهرجان التلفزيونات العربية بالقاهرة عام 1997.
الذي يهمني أكثر هو فوزه برضا الجمهور، لقد اكتشف الجزائريون طريقة أخرى في المعالجة الإعلامية تخرج عن إطار البيانات والتقارير بعيدا عن الحشو والسطحية، طريقة تذهب إلى عمق الأشياء وتأتي بالدليل والحجة.
لقد اكتشفنا شبكات تمول الإرهاب في الجزائر ومنابر تبيح القتل وبيئة في قلب أوروبا تشجع التطرف وتنشر الأفكار الإرهابية ومساجد ممولة من بعض أثرياء العرب، أشرطة وكتب تحرض على العنف.
أئمة مهمتهم زعزعة استقرار بعض الدول، برلمانيون أوروبيون يساندون عن جهل رؤوس الفتنة في الجزائر، ويتشدقون بالسؤال الاستفزازي وقتها من يقتل من.
التقينا أيضا بسياسيين أوروبيين متعاطفين مع الشعب الجزائري في معركته ضد الإرهاب الهمجي، لقد دخلنا أحياء سكنية كانت ممنوعة على الشرطة البلجيكية مثل حي "موفنبيك" ببروكسل.
سنوات من بعد، تكتشف الشرطة البلجيكية بقدرة قادر أن ذلك الحي مفرخة للإرهاب والإرهابيين، وكنا قد نبهنا إلى ذلك.
بعد كل ذلك المشوار ترفض الصحفية صورية بوعمامة لقب النجمة الإعلامية، هل هو لقب يُنقص من قيمة تلك التضحية، أم هو بحث عن نجومية ليست للنشر؟
للنجومية قواعد وشروط وبيئة معينة، بوجودها تكون هناك نجومية وبغيابها تذهب النجومية، لا يمكن أن نقارن أنفسنا بما هو موجود وراء البحار.
النجومية عالم فيه الكثير من الأضواء و الألوان والمال والنفوذ والشهرة والتألق والحسابات وغيرها، وهذه الأشياء مفقودة عندنا وبالتالي لا وجود لشيء اسمه نجم ولا للنجومية.
ما الذي لم تتعلمه بعد الإعلامية بوعمامة أو لم تحققه في المجال الإعلامي؟
لم أتعلم الكثير.
أين هي اليوم الإعلامية صورية بوعمامة؟
أنا اليوم مكلفة بالتكوين على مستوى التلفزيون الجزائري.
كيف تنظرين لواقع الإعلام الجزائري اليوم، سواء الرسمي أو بعد الانفتاح الإعلامي؟
أرى أن الإعلام الجزائري لا يزال يبحث عن نفسه ولا يزال يعاني من ضغط السلطة عليه، مازال يدور في فلك النظام ويقتات من فتاته، لا يزال يفتقد للحرية والمسؤولية في نفس الوقت.
مازال أيضا يفتقد للاحترافية، يعاني من عدة مشاكل، هناك فوضى في المشهد الإعلامي، يجب أن تتوضح الأمور وتقنن، حتى تُحفظ حقوق الصحفيين والمسثمرين في مجال الاعلام، يجب إعادة النظر في كثير من القوانين.
هناك عثرات وهفوات متكررة يجب أن تصحح بسلطة القانون، أكيد لا أحد يحب القيود ولو كانت من ذهب لكننا بحاجة إلى تنظيف الفضاء بإصدار قواعد يضعها الصحفيون والدولة.
يجب أن ندرك أن القوانين التي تلجم الأفواه وتحطم الأقلام تهدم نفسها بنفسها.
أي رسالة تتركها القامة الإعلامية صورية بوعمامة لجيل اليوم من الصحفيين؟
لا أحبذ دور الصحفي الناصح، لكن أفضل دائما استخدام هذه المقولة لتوماس جيفرسون: "السياسي يحب الصحفي الذي يمدحه لكن لا يحترمه، ويزدري الصحفي الذي ينتقده لكن يحترمه".