الرخص النسبي للأيدى العاملة في الدول النامية حفز العديد من الصناعات، خاصة كثيفة العمالة، على الانتقال من البلدان المتقدمة إليها،
في مقال سابق تحت عنوان "صوفيا وأخواتها" أشرنا إلى أن الرخص النسبي للأيدي العاملة في الدول النامية حفز العديد من الصناعات، خاصة كثيفة العمالة، على الانتقال من البلدان المتقدمة إليها، واستفادت بذلك هذه البلدان بقطع شوط في مجال التنمية عبر السير على طريق التصنيع وتصدير منتجات صناعية، بدلا من اقتصارها في السابق على تصدير المواد الأولية فقط، وقد طرح المقال تساؤلا حول الآثار التي قد تترتب على اتجاه البلدان المتقدمة إلى تصنيع ما تحتاجه حتى في القطاعات التي يقال إنها كثيفة العمالة عبر إحلال الروبوت محل العمالة البشرية، طالما كانت ربحها أعلى، إذ في هذه الحالة لن يتم نقل الصناعات إلى الدول الأقل تقدما، وتحرم بالتالي من الاستثمارات وتوفير فرص العمل لأبنائها والسير على طريق التنمية، بل قد تواجه هذه البلدان مشكلة في ضيق أسواق الصادرات إذا حاولت منافسة السلع التي تنتجها البلدان المتقدمة استنادا إلى تكنولوجيا أكثر تقدما.
صناعة الأحذية تعد بالأساس صناعة كثيفة العمل منخفضة رأس المال، وجرى انتقال هذه الصناعة بكثافة للدول الآسيوية، للرخص النسبي لليد العاملة الآسيوية، حيث كان أجر العامل في منتصف العقد الماضي يتراوح بين 60 إلى 80 دولارا شهريا، وهو ما يعد تكلفة تافهة لا تذكر مقارنة بالأجور الأوروبية
ونعود اليوم لإثارة هذه القضية من جديد مع نشر وكالات الأنباء العالمية خبرا مفاده أن واحدة من الشركات البريطانية الكبرى في صناعة الأحذية ستعود لإنتاج الأحذية في بلدها الأم اعتمادا على الروبوت، بعد أن كانت هذه الشركة قد أغلقت آخر مصانعها هناك في عام 2006.
انتقال صناعة الأحذية الأوروبية لآسيا:
كانت صناعة الأحذية البريطانية قد تراجعت بدءا من ستينيات القرن العشرين وتسارعت في الثمانينيات والتسعينيات إثر انتقال متزايد للمصنعين الأوروبيين للدول الآسيوية، وتشير البيانات حسب ما ذكرت وكالة رويترز للأنباء إلى أن الإنتاج السنوي البريطاني انخفض من 180 مليون زوج من الأحذية في منتصف الثمانينيات إلى نحو 6.5 مليون زوج فقط حاليا، وكان ذلك، في الواقع، تطورا شمل كافة البلدان الأوروبية بما فيها تلك التي اشتهرت تاريخيا بصناعة الأحذية الجلدية مثل إيطاليا والبرتغال.
وقد فشلت أوروبا في واقع الأمر في محاولاتها المستمرة لعرقلة هذا التطور، وكانت آخر الجهود في هذا الصدد فرض الاتحاد الأوروبي تعريفة جمركية إضافية تصل إلى 20% على الأحذية المصنوعة في الصين وفيتنام في شهر أكتوبر 2006، بسبب ما اعتبرته المفوضية الأوروبية تسعيرا غير عادل، وقد فرضت هذه التعريفة لمدة عامين لتحل محل رسم جمركي إضافي على واردات أوروبا من الأحذية من البلدين كرسم إغراق، إذ كانت تحقيقات المفوضية الأوروبية قد توصلت آنذاك إلى أن الصين وفيتنام تقومان فعليا بإغراق الأسواق الأوروبية بالأحذية، وتشكلان بذلك ضررا بليغا للمصنعين الأوروبيين، وكان الهدف من فرض هذه التعريفة الجديدة حماية مصنعي الأحذية الأوروبيين من المنافسة غير الشريفة التي تستند إلى معونات حكومية صينية وفيتنامية.
وجاءت ردود الفعل الأوروبية هذه في أعقاب زيادة صادرات الأحذية من البلدين الآسيويين بوتيرة غير معهودة، حيث صدرت الصين 1.2 مليار زوج من الأحذية إلى أوروبا في عام 2005، فيما صدرت فيتنام في العام نفسه 265 مليون زوج من الأحذية، وكانت صادرات الأحذية الجلدية الصينية للاتحاد الأوروبي قد ارتفعت بنسبة 320% والفيتنامية بنسبة 700% خلال العام الممتد من بداية أبريل 2004 وحتى نهاية مارس 2005.
ورغم ذلك ذهب آنذاك عدد من مصنعي الأحذية الأوروبيين الأكثر شهرة، ومن بينهم الشركة التي نشير إليها في هذا المقال، إلى أن هذه الرسوم الجديدة من غير المحتمل أن ينتج عنها أي عودة للوظائف لأوروبا مرة أخرى، بل إن هؤلاء المصنعين أشاروا إلى أن هذه الرسوم ربما تدفع المصنعين الآسيويين إلى الضغط أكثر على عنصر التكلفة ليصبحوا أكثر تنافسية في أعقاب انتهاء أجل الرسوم الجمركية الجديدة أي بعد عامين.
وكان الأمر في مجال هذه الصناعة يسير على النحو المعهود في غيرها من الصناعات التي تنتقل للدول النامية، ولا سيما البلدان الآسيوية، فصناعة الأحذية تعد بالأساس صناعة كثيفة العمل منخفضة رأس المال، وجرى انتقال هذه الصناعة بكثافة للدول الآسيوية للرخص النسبي لليد العاملة الآسيوية، حيث كان أجر العامل في منتصف العقد الماضي يتراوح بين 60 إلى 80 دولارا شهريا، وهو ما يعد تكلفة تافهة لا تذكر مقارنة بالأجور الأوروبية.
الروبوت وتغيير الاتجاه:
يمثل إدخال الروبوت في إنتاج الأحذية تطورا فارقا خاصة في صناعة كانت تتميز بأنها منخفضة رأس المال منخفضة التكنولوجيا، ويبسط الرئيس التنفيذي للشركة التي عادت لصنع الأحذية في بريطانيا الأمر بتوضيحه؛ أن المصنع الجديد تبلغ تكلفته 4 ملايين دولار وينتج 300 ألف زوج من الأحذية سنويا.
وأوضح أن المصنع الجديد سيجمع بين العمالة الماهرة وتكنولوجيا الروبوت، وتبلغ فرص العمل التي سيوفرها المصنع من الفنيين والإداريين نحو 80 فرصة عمل فقط، كما شرح الأمر من زاوية التكنولوجيا المستخدمة بقوله "نظرنا لصناعات السيارات والطائرات واستخدمنا بعضا من هذه التكنولوجيا لإحداث تغيير كبير في الطريقة التي نصنع بها الأحذية". والأكثر أهمية في هذا السياق قوله إنه من الممكن افتتاح وحدات تصنيع جديدة حول العالم إذا حقق المصنع الجديد نجاحا.
وبالطبع فإن التفكير في افتتاح وحدات تصنيع جديدة على هذه الشاكلة ستكون على الأغلب في بلدان متقدمة أخرى، على الأقل بهدف التواجد المباشر في أسواق الاستهلاك مع خفض تكلفة الإنتاج بشكل مؤثر استنادا إلى استخدام الروبوت، ومن المؤكد أن العدد المحدود من فرص العمل التي سيتيحها المصنع الجديد والبالغة 80 فرصة قد حلت محل المئات وربما الآلاف من فرص العمل التي كانت محتملة في الدول النامية، إذا ما كان قد تم إنتاج نفس كمية الأحذية استنادا إلى قوة العمل البشرية بالأساس، ووفقا للتكنولوجيا السائدة في الصناعة حاليا.
ومن المهم الإشارة إلى أن مثل هذا التطور لا يعني انتهاء تصنيع الأحذية أو غيرها من صناعات سلع الاستهلاك الجماهيري كثيفة العمالة مثل الملابس والأغذية في الدول النامية، أو الجزم بأنه سيحرمها كلية من انتقال رؤوس الأموال والصناعات إليها، إذ تظل هناك فائدة من القرب من الأسواق خاصة الأسواق الضخمة بالمقاييس العالمية مثل الصين والهند مثلا، وحيث تغير الصين اتجاه سياستها الاقتصادية إلى الاعتماد أكثر على الطلب المحلي وليس على الصادرات، خاصة مع نمو الطبقة الوسطى وتطلعها إلى استهلاك السلع الأعلى جودة والأكثر شهرة عالميا، ومن المؤكد أن المصنعين للعلامات التجارية الشهيرة يريدون الاستفادة من هذه السياسة، والتغلب ربما على أي نزاعات تجارية قائمة أو محتملة بالتصنيع المباشر لسلعهم في سوق مثل السوق الصينية، كما أنه ستحكم هذه الصناعة وغيرها من الصناعات طبيعة جدلية مركبة تستند بشكل أساسي إلى عنصر التكلفة ومن ثم فرص الربحية، وهنا سيكون التفاعل ما بين عناصر رأس المال والعمل والتكنولوجيا والأسواق هو المحدد في نهاية المطاف لموطن صناعة أو استثمار ما.
وغاية ما نود التأكيد عليه أن التكنولوجيات الجديدة خاصة تكنولوجيا الروبوت تفتح المجال أمام تغير نسبي في الاتجاه العام السائد منذ فترة طويلة من الوقت، وكمثال على ذلك فالشركة محل اهتمام هذا المقال قامت في العام الماضي بتصنيع 50 مليون زوج من الأحذية، 40% منها في فيتنام و18% في الصين، و18% في كمبوديا، و17% في الهند، و4% في إندونيسيا، و2% في بنجلاديش، وتوزعت الـ1% المتبقية بين بلدان أوروبية ونيكاراجوا.
ومع عودة الشركة للتصنيع في بريطانيا باستخدام الروبوت فستحول بذلك دون توفير المزيد من فرص العمل في البلدان النامية بعد أن كان توسعها في السابق يتم هناك بالأساس، والمؤكد أيضا أنها ستحرم بعض هذه البلدان من سوق كانت متاحا أمام صادراتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة