تمر السنون أحياناً، دون أن ينتبه الإنسان لما يسعده حقاً! ناهيك عن أن يضع خطة للاستثمار في تلك المجاهيل.
أحسب أن كل من له أدنى معرفة بالاستثمار، سيعرض عن هذا المقال من عنوانه، فأول يقينيات الاستثمار وحقائقه أنه لا يوجد في الدنيا استثمار لا يخسر!
لكن، دعوني أشرح لكم القصة.
أفكر الآن ومنذ الأمس بالاستثمار في السعادة، ماذا يمكن أن نزرع اليوم كي يكون السهم في المأمول غداً؟ ولست سابقاً لمحمد بن راشد في شيء؛ فالرجل سبقنا بالاستثمار في الموضوع، لا على مستوى الأفراد فقط، بل أطلق تحالفاً عالمياً للسعادة، فنظرة مثله بعيدة المدى
لم يكن ليخرج، أشهر مذيعي «التوك شو» في العالم العربي، الأستاذ عمرو أديب، من زيارته لنا في شبكة «العربية»، قبل أيام، دون أن يترك خلفه «قضية رأي عام»!
ولا أشير مجازاً إلى الحلقة التي شارك فيها الأستاذ عمرو أديب من مسلسل «قضية رأي عام»، بل أقصد حرفياً أن سؤاله الذكي للزميلة - سريعة البديهة - لين شومان، قد بقي في رأسي بعد ذلك النهار الطويل الممتع، بصحبته، وصحبة فريق «العربية».
يبدو السؤال متوقعاً، ليس فقط من عمرو أديب، بل من كل من يقابل من يعمل في قسم الاقتصاد، الذي اكتسب مصداقية واحترافية، يشهد بها الجميع، فكلنا يعرف أن فرق المعلومة، وسرعة انتقالها يرفعان أسهماً مغمورة، وقد يدمر أسواقاً كاملة!
السؤال كان منطقياً واحترافياً، وأعترف شخصياً بأني لم أتوقع السؤال، لكن اللافت أني لم أتوقف للحظة من دهشة الإجابة، التي زرعت ابتسامات، وحصدت الإعجاب!
فاجأ الأستاذ، لين بسؤال مباشر: بماذا تنصحينني أن أستثمر؟
لم تلتفت مرتين، ولم تفكر، وقالت فوراً: استثمر في سعادتك!
هذا النوع من الأجوبة التي لا تترك لك فرصة إكمال الحوار، حيث تأخذ نصيبك من الكلام، ويبقى معك الجزء المتنقل، حيث تفكر فيه ملياً، وتحاول أن تشرك غيرك ممن تحب، وتثق من التفكير فيه، كما يحدث مع العبد الفقير إلى الله، معكم في هذه الأسطر.
آمل بطبيعة الحال ألا يسبقني العزيز عمرو أديب، بطرحه قبلي على جمهوره العريض، وأعلم أنه بدأ من لحظتها في مضاعفة الاستثمار في سعادته، على أننا لا نتوقع في «العربية»، أن تطلب لين، إجازة لنشر كتابها الأول عن أصول الاستثمار في السعادة الشخصية.
تمر السنون أحياناً، دون أن ينتبه الإنسان لما يسعده حقاً! ناهيك عن أن يضع خطة للاستثمار في تلك المجاهيل، لكن يمكن لكل منا أن يتذكر طقوساً يحبها، أو أعمالاً ينتشي بإنجازها، أو معارض بزيارتها يعود شخصاً جديداً... أن يتذكر شغفاً قديماً يرفض أن يغادر أو يتلاشى... صديقاً بلقياه، والحديث معه يصبح للساعات معنى آخر!
أعترف شخصياً بنشوة قديمة لم تزل في شبابها، وحين انتبهت بعد سنين أنها تعني لي الكثير أصبحتُ أكثر إصراراً عليها، وهي اقتناء العناوين اللافتة من معارض الكتب، أتمنى أحياناً أن يعود بي الزمان لأعود شخصاً يستطيع بدء حوار بسيط مع ناشر، لم يبع سوى كتابين في نهاره، شاباً في الثانوية يشفق عليه بائع مكتبة، فيعطيه خصماً لتشجيعه على القراءة. ربما استثمرت أكثر من اللازم في سعادتي، بأن أسست دار نشر قبل أعوام، وبقي من ذلك كله، نشوة اكتشاف عمل رائع، من بين ركام الإصدارات الجديدة.
أعترف أكثر، بأني لا أقاوم الاتصال بكاتب شاب أعجبني كتابه، قبل أن يذهب للمطبعة، يزيد فضولي فأتمنى عليه عنواناً معيناً مع بقاء الحق له في تسمية عمله، بل أقرّ بالمضحك للآن، تصيبني نشوة غير مفهومة حين أسرق وقتاً، فأحرر مقالاً أو أكتب مقدمة لكتاب بخط يدي - مللاً من الكتابة بالكمبيوتر، والمقربون جداً يعرفون أني مدين لحب الشعر بالكثير، أحب إلقاءه، ولو لنفسي، وحين أغرم بأبيات، أنتقي قلماً أحب خطه فأكتب الأبيات وأهديها لصديقٍ عزيز أو أحتفظ بها لنفسي؛ لأن ذلك يسعدني حقاً، وأعتبره حتى قبل لقاء سؤال عمرو أديب للين شومان، من عاجل سعادة الإنسان.
أفكر الآن ومنذ الأمس بالاستثمار في السعادة، ماذا يمكن أن نزرع اليوم كي يكون السهم في المأمول غداً؟
ولست سابقاً لمحمد بن راشد في شيء؛ فالرجل سبقنا بالاستثمار في الموضوع، لا على مستوى الأفراد فقط، بل أطلق تحالفاً عالمياً للسعادة، فنظرة مثله بعيدة المدى، وهو يؤكد «أن الاستثمار في السعادة استثمار في الأمن والسلام، والتعايش بين شعوب الأرض، فهي عدوة الكراهية والتطرف»، بل يتطلع لتأسيس التحالف الدولي للسعادة، بغية إحداث تغيير إيجابي في العالم!
يبدو الوصول لروتين صباحي صحي، استثماراً حقيقياً طويل المدى في السعادة، ولا صباح جميلاً دون نوم مكتمل الأركان، ولا نوم حقيقياً دون سلامة الصدر وإيثار الآخرين على نفسك، ولا إيثار دون صبر وحسن خلق، ولا يأتي ذلك كله دون إيمان حقيقي بوجوب البحث عن السعادة، لأنفسنا ولمن حولنا، باعتبارها حقاً أصيلاً لكل إنسان على هذه الأرض.
وإذا كانت الابتسامة الصغيرة، معدية، فإن وصولك لعملك، أو لمكان أصدقائك سعيداً معدٍ أيضاً.
من يحيطون أنفسهم بالسعداء، ويجاورون سليمي القلب، يسلمون، وبعد ذلك كله يسعدون.
ثمة أمر غاية في الأهمية، وهو الاستمتاع بالأشياء الصغيرة، فمن لا تسعده الأشياء الصغيرة، لن تسعده الأشياء الكبيرة!
استثمر في بناء نفسك، تربية أبنائك، صلة من لا يتوقع أحياناً صلتك، يمكن لك دائماً أن تأخذ أكثر مما تعطي إذا أحسنت اختيار المقابل وكنت قليل التوقعات، وقبل أن أنسى، قلل دائماً من توقعاتك، لكن ارفع من قوة أسبابك كي لا تغضب من نفسك، إذا ارتدت الكرة عليك.
بطبيعة الحال لا يعني هذا كله أن تقنع بإجابة لين لعمرو أديب، فقد تكون نصيحتها لك مختلفة، ولا ندري أيضاً هل للبدء في محفظة الاستثمار بالسعادة عمر معين، أو تاريخ محدد؟!
المهم... لا تتوقع إجابة معينة من إعلامي لإعلامي!
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة