لم يعد خافياً أن لدى إيران من البراغماتية السياسية والحسابات المصلحية، ما يكفي لمقايضة حلفائها ووكلائها، بل وأذرعها التي طالما رعتها واستفادت منها لتحقيق أهدافها الخاصة.
ففي الأسابيع الأخيرة تتالت مواقف وشواهد كثيرة، تثبت تغيير رؤية إيران وتقديراتها لأولئك الوكلاء الإقليميين. وحيث لا تتنازل إيران عن أوراقها إلا بمقابل سخي يفوق ما تتحصل عليه من مكاسب عبر هذه الأوراق، فهي على الأرجح تضمن أو على الأقل تتوقع مكاسب ضخمة من التخلي عن "حزب الله" اللبناني. فحتى وإن كان التخلّي مؤقتاً أو قابلاً للتراجع لاحقاً حسبما تسير التطورات، المؤكد أن هناك خسائر كبيرة تكبدتها إيران وليس فقط "حزب الله" بعد التخلي عنه.
بشكل واضح، خسرت إيران أوراق تأثير وأدوات ضغط كانت تعتمد عليها بشكل أساسي للمساومة مع الأطراف الإقليمية والعالمية. ونتذكر هنا كيف كانت تلك الأدوات، تحديداً في العراق ولبنان واليمن، مدخلاً أساسياً في تعاظم قوة إيران الإقليمية ومن ثم الاستناد إليها في مساومة الغرب وإبرام صفقة نووية أبعادها السياسية ومضامينها الجيوستراتيجية أعمق وأهم من جوانبها التقنية والعسكرية ذاتها.
ورغم ما يبدو من تناقض إيراني بين التخلي والهدوء المريب في التعاطي مع تدمير إسرائيل "حزب الله" ومن قبله ارتكابها جرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، مقابل ما يجري حالياً من قصف متبادل مع إسرائيل، إلا أن المتابع لسياسات إيران ومنطقها منذ أكثر أربعة عقود، يدرك جيداً أن هذه هي إيران التي أساسها الخميني. وسيتذكر بسهولة أن إيران في منتصف الثمانينيات وهي في أوج حربها ضد العراق، كانت ترفع شعار "الموت لإسرائيل" وتصف الولايات المتحدة الأمريكية بأنها "الشيطان الأكبر"، بينما كانت إسرائيل تتولى إمدادها بالأسلحة الأمريكية في صفقة شهيرة معروفة باسم "فضيحة إيران جيت".
ولذلك، لم تنجح المناوشات التي تقوم بها إيران حالياً ضد إسرائيل في تحسين الصورة أو تصحيح موقف طهران السيئ. بعد أن جاءت طهران متأخرة للغاية، بل تقريباً بعد فوات الأوان. ثم جاء التحرك في شكل هجمات محدودة الحجم ومحددة النطاق ضد أهداف منتقاة بعناية شديدة.
لقد خسرت طهران الثقة والمصداقية ليس فقط داخل "حزب الله" لكن أيضاً بين صفوف الكيانات الأخرى الموالية لها. فبالتأكيد باتت تلك التنظيمات والأذرع التابعة لإيران، تراجع حساباتها. وفي ذلك مكامن خطورة كبيرة بالنسبة للمشروع الإقليمي الإيراني، الذي يهدف بشكل عام إلى تشكيل منظومة إقليمية تابعة لها أو على الأقل تخضع لهيمنتها وتتبع سياسات وتحركات تخدم طهران ولا تتقاطع مع مصالحها. وهي في سبيل ذلك تتخذ من التوافق المذهبي مدخلاً واسعاً ومنطقياً لتأسيس تعاون وثيق ومن ثم تقديم الدعم وزرع أدوات الارتباط ووسائل تبعية الجماعات والأقليات الشيعية لها.
لكن ذلك المدخل ليس الوحيد، فلم يكن لدى إيران أي موانع من توثيق علاقاتها مع حركة "حماس" وغيرها من الفصائل الفلسطينية، وهي تدرك جيداً أن تلك الفصائل تعتنق المذهب السُني، بل ولها ارتباطات مباشرة وتاريخية بتنظيمات وجماعات مثل الإخوان المسلمين أو الجهاد.
وبعدما حصل في لبنان وقبله في غزة من تخلي وخذلان إيراني لأهم وأبرز تلك الأذرع والمجموعات التابعة لها بما فيها "حزب الله" اللبناني، الذي يعد بشكل عملي ورمزي رأس الحربة الأساسي لطموح إيران الإقليمي. فلن يكون غريباً ولا مستبعداً أن تعيد الفصائل الفلسطينية النظر في حدود وطبيعة ارتباطها بإيران. أو بعبارة أوضح، أن تقلل اعتمادها على طهران، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو حتى في النواحي الأمنية والعسكرية. بعد أن انكشفت حقيقة الصورة الذهنية المبالغ فيها التي طالما حاولت إيران تسويقها، بأنها دولة مبادئ ترفع تعاليم الإسلام فوق أي شيء آخر، وتعتبر مساندة الفلسطينيين والمستضعفين في غزة وغيرها على الأرض، جهادا مقدسا.
ولن يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لأذرع إيران الإقليمية، سواء في العراق أو اليمن، فسيكون الجميع على حذر بعد ما تعرض له "حزب الله" اللبناني. وسيفكر كل تنظيم أو كيان تابع لإيران، ألف مرة، قبل أن يعمل لصالحها مجدداً. بعد أن أثبتت السياسة الإيرانية بما لا يدع مجالاً لأي شك، أنها لا تفهم سوى لغة القوة وموازينها، وأن شبكة علاقاتها ومظلة رعايتها لأي طرف أضعف منها، موجهة أساساً وخصيصاً لمصلحة إيران أولاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة