ربطات العنق.. رمز «الحب في الحرب» الذي ناصبته إيران العداء
حينما جاءت الانتخابات التشريعية في فلسطين عام 2006 بحركة حماس، أتت معها السلطة وربطات العنق.
وظهر إسماعيل هنية رئيس الوزراء حينها (قتل العام الجاري في طهران في خلال توليه رئاسة المكتب السياسي للحركة وتحمل الحركة إسرائيل مسؤولية مقتله)، خلال عام بربطة عنق تخلى عنها في وقت لاحق.
ويقول نشطاء على خلاف مع الحركة الفلسطينية إن هنية تخلى عن ربطة العنق خلال زيارة إلى إيران، التي أصدرت قبل سنوات من هذا التاريخ فتوى تحرم فيها هذا التقليد الغربي.
وحاول مناهضو حماس الاستدلال عبر تخليه عن ربطة العنق على بدء تبعية الحركة لإيران، لكن سواء صح الاستنتاج أو لا، ما يظل مؤكدا هو تحريم إيران بفتوى من مرشدها الأول الخميني ربطة العنق.
وعلى هذا الشريط القماشي الضيق ستبدأ لعبة جديدة للرمزية في الشرق الأوسط، حيث تربط قوى مناهضة للغرب بالعداء لربطات العنق، ويبدو ما بات يسمى بـ"محور المقاومة" رافعي لواء التخلي عن رمز الأناقة الغربي.
متى ولدت ربطات العنق؟
للمفارقة ولدت ربطات العنق بالشكل الذي بتنا نعرفه في كرواتيا وفي ساحة المعركة، حيث اعتادت الفتيات والنساء الكرواتيات خلال حرب الثلاثين عاماً (1618-1648)، على ربط أوشحة حول أعناق أحبائهن وأزواجهن قبل ذهابهم إلى ساحة المعركة، بحسب تقرير لموقع دويتشه فيله.
وكان يرمز إلى تلك الأوشحة على أن "ربط حب" أقوى من الحرب، لكن لم يعرفن آنذاك أن هذه العادة قد تشكل علامة فارقة في الموضة والأزياء الرجالية حتى يومنا هذا وقطعة لا غنى عنها في خزانة رجال الأعمال والسياسيين.
وحظيت هذه الأوشحة حول أعناق الجنود الكروات، باهتمام كبير من الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، ويقال إن الملك وجد الأوشحة الحريرية للجنود الكرواتيين مميزة للغاية إلى درجة اعتمادها نحو عام 1650، في البلاط الفرنسي، ومنذ ذلك الحين بقيت تمثل الثقافة والأناقة والجمال بين البرجوازية.
لماذا يرفض الثوار ربطات العنق؟
تُعد ربطة العنق جزءا أساسيا في زي العمل التقليدي على مستوى العالم، حيث تضفي على البدلات الرسمية لمسة من الأناقة وترمز إلى المكانة الاجتماعية، لكن في إيران يرتبط ارتداء ربطة العنق بدلالات سياسية وثقافية عميقة تجعل من اختيارها مسألة حساسة تحمل في طياتها مخاطرة.
وتعود جذور رفض المجتمع الإيراني لربطة العنق إلى فترة الثورة الإسلامية عام 1979، حينما جرى تصنيفها كرمز للهيمنة الثقافية الغربية، فقد اعتبر رجال الدين الإيرانيون، بقيادة آية الله الخميني، أن ربطة العنق تجسد القيم الغربية الفاسدة التي ينبغي الوقوف ضدها، وبناء على ذلك تم حظر بيعها باعتبارها رمزا للفساد الأخلاقي وأحد رموز النظام العلماني السابق بقيادة الشاه محمد رضا بهلوي.
خلال تلك الحقبة ارتبطت ربطة العنق برموز غربية أخرى مثل "ربطة البو"، مما عمّق رفض المجتمع الإيراني لأي تعبير ثقافي مستورد، لذا كان ظهور المسؤولين الحكوميين أو موظفي الدولة -حتى رؤساء الدول- دون ربطة عنق، إشارة واضحة إلى الانفصال عن الحضارة الغربية وتجسيدا لهوية الدولة الجديدة.
ورغم هذا الحظر الرسمي فقد تراجع تشدده عبر السنين، وفي عهد الرئيس محمد خاتمي، على سبيل المثال، شهدت إيران تخفيفا في بعض القيود، حيث أصبحت ربطات العنق تُباع في المحال في المدن الكبرى، وبينما ظل بيعها غير قانوني لم تفرض عقوبات على ارتدائها مما فتح المجال لعدد من الرجال الإيرانيين لارتداء ربطة العنق في مناسبات مختلفة، مثل الأعراس أو في أماكن العمل الخاصة.
للوقوف على أسباب هذه السياسات يجب النظر إلى تاريخ دور الملابس كوسيلة للتعبير السياسي والاجتماعي قبل الثورة، ففي عهد رضا شاه، الذي حكم بدءا من عام 1925، اتخذت الحكومة خطوات جذرية نحو "تحديث" المجتمع الإيراني، حيث فُرضت قوانين للملابس تعكس التأثير الغربي وتحدث تغييرا جذريا في الهوية الثقافية.
وفي عام 1928 صدر قانون يُلزم جميع الموظفين الحكوميين، باستثناء رجال الدين، بارتداء الملابس الغربية، بينما صدر مرسوم عام 1935 يفرض ارتداء القبعات، ما جعل سياسة الملابس أداة فعّالة لإعادة تشكيل الهوية الوطنية.
وكما أشار المؤرخ هوشنك شهبي فقد كانت سياسة "الهندسة الاجتماعية عبر الملابس" جزءًا من مشروع بناء الأمة، حيث كانت "الأوروبة" بمثابة شرط لتحقيق التساوي في النظام الأممي.
ثورة إعدام "ربطات العنق"
بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 انطلقت الأمور في اتجاه جديد، حيث أصبح من غير الممكن لمسؤولي النظام الإشارة إلى "أصالتهم" إلا من خلال رفض رموز ثقافية معينة، أبرزها ربطة العنق.
مع تولي نظام المرشد الإيراني الحكم اتخذت السلطات قرارا جريئا بمنع ارتداء ربطة العنق، وقامت الأجهزة الأمنية بحظر بيعها في المتاجر.
وأصدرت الحكومة الإيرانية حينها تشريعات صارمة تمنع الرجال من ارتداء ربطة العنق في جميع الأماكن والمناسبات. وقد أكد رجال الدين الإيرانيون، بقيادة المرشد الأعلى علي خامنئي، أن "ارتداء ربطة العنق غير جائز".
وانتقلت عدوى معادات ربطة العنق إلى العراق، إذ أفتى رجل الدين العراقي البارز علي السيستاني بأنها مفسدة وحرمها.
الكثير يفتحون أزرار قمصانهم
من اللافت أن التوجه لفتح أزرار القمصان والتخلي عن "الكرافات" أو ربطات العنق لم يكن ظاهرة محصورة بإيران بعد "ثورة الخميني"، بل ارتبط بتاريخ العديد من الدول التي عرفت قادة اتخذوا خطوات مماثلة.
على سبيل المثال ابتعد الرئيس الكوبي فيدل كاسترو عن ارتداء الكرافات، ولم يبدأ بارتدائها إلا بعد أن تقدم به العمر، مما يعكس تحولات شخصية وصورة رمزية.
كذلك، شهدت كوريا الشمالية، منذ نشأتها، غياب ربطات العنق، في حين أن القادة الصينيين لم يميلوا إلى ارتدائها إلا بعد أن تحقق لديهم شعور بالاستقرار العسكري والاقتصادي.
في فلسطين، كان "ياسر عرفات" رمزا للقضية، إذ التزم طوال حياته باللباس العسكري و"الكوفية الفلسطينية"، مما أضفى بعدا وطنيا ونضاليا له في آن واحد.
ومع اندلاع "الثورات العربية"، برز جيل جديد من "المتحررين من الكرافات"، كان أبرزهم الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، الذي يحمل توجها يساريا، لكنه ارتبط بجماعة الإخوان، اعتبر الكرافات رمزا للثقافة الغربية "غير المستساغة"، مُعبرا بذلك عن موقفه بعد توليه الحكم عقب رحيل الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
هنية ينزعها
على الرغم من ظهوره لوقت قصير بربطة عنق فقد قرر هنية سريعًا التخلي عنها، معتبرًا ذلك تجسيدًا للهوية المستقلة.
ومع مرور الوقت، تراجع هنية عن قراره وارتدى الكرافته مرة أخرى، إثر انتقادات وجهت له بشأن تبعيته لإيران. هذه التحولات في مظهر هنية ووزرائه لم تكن مفاجئة للمتابعين لحركة حماس، التي تتقن أداء عدة أدوار بمرونة.
ومع ذلك، أثارت هذه التحولات اهتمام الشارع الفلسطيني وفتحت باب التساؤلات لدى شخصيات سياسية، مثل الدكتور عبدالستار قاسم، أستاذ العلوم السياسية في نابلس، المعروف بمواقفه المعارضة للسلطة الفلسطينية.
في تحليل له، أكد قاسم أن "ارتداء الوزراء ربطات العنق في حكومة حماس لم يكن مجرد مسألة فردية، بل جاء بقرار رسمي من الحركة، يهدف إلى توجيه رسالة رمزية إلى الولايات المتحدة وأوروبا. ويعكس تحولًا جوهريًا، ويشير إلى أن حماس ليست مجرد حركة ميدانية، بل تسعى لتقديم نفسها كقوة سياسية قادرة على التواصل دبلوماسيًا مع العالم".
كما أشار قاسم إلى أن "ربطة العنق" قد تعكس صورة سلبية لدى بعض الفلسطينيين، الذين يعتبرون الزي غير الرسمي رمزا للثبات والمقاومة.
وأكد أن مثل هذه التحولات الجماعية تعتبر خروجا عن الصورة التي رسمتها حماس لنفسها لسنوات، كحركة مقاومة ذات هوية ميدانية. وأضاف قاسم أنه من غير المتوقع أن يلتزم بهذا التوجه لو طُلب منه ذلك رسميا، معلنا "لو كنت في الحكومة وطلب مني ارتداء ربطة عنق سأترك منصبي".
الحوثيون أيضا
في أول ظهور لهم أمام مبنى مجلس الوزراء في صنعاء، تجلت صورة مميزة لأعضاء ما يُعرف بحكومة جماعة الحوثي، التي لا تحظى باعتراف رسمي، حيث استُقبلت الكاميرات جميع الحضور بلا ربطات عنق، وقد أثارت هذه الخطوة ردود أفعال نشطاء اليمن، الذين اعتبروها دليلا إضافيا على مدى التغلغل الإيراني في سلوك الحوثيين وتصرفاتهم.
وفي خطوة جدلية أخرى، أُشيع أن الأجهزة الأمنية التابعة لما يُعرف باللجان الثورية، أو ما يُطلق عليها الأمن الحوثي، قد أصدرت قرارا يمنع ارتداء ربطات العنق في شوارع العاصمة صنعاء.
ورغم عدم صدور قرار رسمي بمنع ارتداء ربطات العنق في اليمن يعتقد مراقبون أنه لن يكون قرارا مستغربا في ظل رغبة الحوثي في هندسة اجتماعية مماثلة لنظيرتها في إيران.
قناة حزب الله بـ"ملابس إيرانية"
وشهد لبنان منذ بداية الثمانينيات تحولا ثقافيا جذريا مع ظهور "ثقافة" حزب الله، حيث أصبح من المعتاد أن يمتنع أعضاؤه ومحازبوه عن المصافحة باليد أو ارتداء ربطات عنق، رفضا للثقافة الغربية، وتماشيا مع السياسة الثقافية للحزب المستوحاة من الثورة الإيرانية.
ومع ذلك، برز الإعلامي السابق عماد مرمل، الذي يعتز بانتمائه لزمن المقاومة، وهو يرتدي ربطة عنق خلال تقديمه برنامجا سياسيا على قناة "المنار" التابعة للحزب.
هذا التحدي الصامت اعتبره البعض كسرا لقواعد الحزب الثقافية المستندة إلى الفهم الخميني، في محطة تلتزم بقواعد لباس صارمة، حيث ترتدي المذيعات ملابس شرعية قريبة من التشادور، بينما يُظهر المذيعون بأصواتهم الرنانة، يتجلى مشهد يوحي بحالة تأهب دائم.
الجنوب لا يلبس الكرافتة
إذا عدنا إلى تاريخ لبنان، وبالتحديد إلى جنوبه، نجد أن ربطة العنق كانت محط جدل قبل ظهور حزب الله. وفقاً للكاتب اللبناني الأصل فؤاد عجمي كان أحمد بك الأسعد، أحد الزعماء التقليديين في الجنوب، يرتدي الطربوش كرمز للسلطة التقليدية. بينما ابنه كامل الأسعد، الذي تلقى تعليمه في السوربون وتأثر بالثقافة الغربية، تخلى عن هذه التقاليد، مما أثار استياء أبناء الجنوب الذين وجدوا في سلوكه انفصالاً عن ثقافتهم.
وعلى الرغم من أن كامل كان يتبنى الحداثة، فإنه كان يُفرض على الشيعة الذين يلتقونه أن يخلعوا ربطات العنق، ربما ليُثبت سلطته ويفرض صورة سائدة تتناسب مع توجهاته التقليدية.
هذا الصراع بين رفض الحداثة والتعلق بالهوية يُظهر تأثيراً مزدوجاً لربطة العنق، فمن جهة مثلت السلطة التقليدية رغبة في السيطرة والبقاء على المجتمع في وضعه السابق، ومن جهة أخرى برز المنع الأيديولوجي لحزب الله كتعبير عن مقاومة النفوذ الغربي.
تتأرجح "ربطة العنق " كرمز معقد يُشير إلى هوية المجتمع وصراعاته، وبين الانتماء الثقافي والرفض الفكري، لنرى كيف يمكن للأيديولوجيات أن تؤثر في تفاصيل الحياة اليومية، من الزي إلى المواقف السياسية.
aXA6IDMuMTM3LjE3My45OCA= جزيرة ام اند امز