الاتفاق النووي الإيراني.. مسار متعرج من مارس إلى سبتمبر
تتحرك المفاوضات متعددة الأطراف حول الاتفاق النووي الإيراني على مسار متعرج لا استقرار فيه، لكن الأفق يبدو قاتما.
ووفقا للمراقبين، فقد تأرجحت حظوظ إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني بشكل دراماتيكي، من "شبه المؤكد" في مارس/آذار إلى "الصفر" تقريباً في يوليو/تموز، ثم عادت للتحرك في "اتجاه الاتفاق" في أغسطس/ آب، قبل أن تصل لاحقا إلى طريق مسدود آخر في سبتمبر/ أيلول.
وكان أحد المحركات الأساسية لهذا المسار المتعرج هو دوافع الأطراف ومدى التحفز أو الفتور الذي قد يلحق بها، بناء على حسابات مستمرة -من جانب الجميع - للجدوى السياسية والاقتصادية لمثل هذا الاتفاق.
أما بالنسبة لواشنطن، فالأهداف واضحة.. هي "فرملة" البرنامج النووي لطهران وإخضاع قدراته إلى التمحيص والتدقيق الدولي، وربما لأن الخيار العسكري مستبعد من جانب واشنطن في التعامل مع إيران.
ويبدو التوصل لاتفاق نووي هو الحل الوحيد والمنطقي أمام واشنطن لكبح جماح طهران النووية.
رؤى مختلفة
لكن هذه الرؤية السياسية لا يتبناها كل ساسة واشنطن، فهناك آخرون -لاسيما بين الجمهوريين - الذين يرون إيران، وقد طورت قدراتها وتكنولوجياتها النووية إلى حد بعيد مقارنة بالحال عام ٢٠١٥ عند توقيع الاتفاق السابق، تحتاج إلى نمط آخر للتعامل معها غير الاتفاق الذي يرون فيه استسلاما ومهادنة مع طهران.
فوفقا للسياسي الأمريكي المخضرم دنيس روس فإن المعلومات المتوفرة أن برنامج طهران النووي هو أكثر تقدماً بكثير مما كان عليه في عام 2015، لذا فإن التهديد الحقيقي باستخدام القوة هو وحده الذي سيمنع طهران من تجاوز عتبة الأسلحة النووية.
وقال في تحليل أخير نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إن حملة "الضغط الأقصى" التي شهدتها سنوات الرئيس السابق دونالد ترامب باءت بالفشل، كما أن السياسة التي انتهجها الرئيس الأمريكي جو بايدن حتى الآن لم تنجح أيضاً.
فعلى مدار الثمانية عشر شهراً الماضية، تطور البرنامج النووي الإيراني بوتيرة متسارعة.
ووفقا له، فإن هذا يعني في الواقع أنه، حتى لو تم إعادة صياغة "خطة العمل الشاملة المشتركة"، ستصل إيران بعد عام 2030 إلى مستوى يسمح لها بالانتقال بسرعة إلى حيازة قنبلة نووية ما لم يدرك القادة الإيرانيون أن تكلفة هذه الخطوة باهظة للغاية.
هذا الاختلاف في رؤية سبل التعامل مع الملف النووي الإيراني قد ينزع عن التوصل لاتفاق نووي جديد بريقه السياسي واعتباره إنجازا سياسيا لإدارة بايدن المقبلة على انتخابات (تشبه الاستفتاء على أداء إدارة الرئيس) في نوفمبر/تشرين الثاني القادم في الكونغرس، كما أن خلافات عملية التفاوض لم يكن بالإمكان إنجازها تماما في وقت زمني ضيق وحرج للبيت الأبيض.
إغضاب الحلفاء
ومن بين حسابات الجدوى السياسية الأخرى هو إغضاب واشنطن للحلفاء إذا ما مضت قدما في هذا المسار.
فإسرائيل تعارض أي تفاهم مع طهران من شأنه أن يغض الطرف عن سياساتها العدائية وخطرها الوجودي بالنسبة لتل أبيب.
والشهر الماضي على سبيل المثال، قال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس، إنه أبلغ مستشار الأمن القومي الأمريكي، جاك سوليفان، بـ"معارضة إسرائيل" للاتفاق النووي مع إيران.
وأشار جانتس إلى أنه حث سوليفان على "أهمية الاستمرار في تقوية وتعزيز القدرات العملياتية الهجومية والدفاعية الموثوقة، في مواجهة المشروع النووي الإيراني".
وشدد رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، على أن بلاده "تعارض الاتفاق النووي" مع إيران، ووصفه بـ"السيء"، لأنه يعطي طهران "امتيازات بالجملة".
كما أن الدول الخليجية غير مستعدة للتعامل مع "إيران نووية"، ولا تجد في هذا الاتفاق النووي المحتمل إلا مزيدا من غض الطرف عن "بسط العضلات" الإيرانية في المنطقة كيفما تشاء.
فالاتفاق السابق عام ٢٠١٥، قد أفرج لطهران عن ملايين من أموالها المجمدة ورفع العقوبات الدولية عليها، لتقوم طهران في المقابل بالانخراط في أجندة إقليمية معادية للدول الخليجية وتتبع سياسات عدائية.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك دعمها للانقلابيين الحوثيين في اليمن الذين يقاتلون قوات التحالف العربي بقيادة السعودية.
ووفقا لدينيس روس، فإن التوصل لاتفاق نووي من شأنه تأجيل التهديد النووي الإيراني وليس إنهاءه.
ووفقا له، فعلى سبيل المثال، إذا رأت إسرائيل - التي تؤمن بأن إيران المسلحة نووياً تشكل تهديداً وجودياً للدولة اليهودية - أن الولايات المتحدة والآخرين مستعدون للتعايش مع طهران المسلحة نووياً، فسيزيد ذلك إلى حد كبير من احتمال قيام تل أبيب بضربات عسكرية كبيرة على البنية التحتية النووية الإيرانية.
حسابات طهران
في المقابل، فإن دوافع إيران لا تزيد عن أملها في الإفراج عن الأموال المصادرة نتيجة للعقوبات الدولية بحقها والتي تقدر بمليارات الدولارات.
وفي الوقت نفسه، تدرك طهران أن هذه ربما تكون الفرصة الأخيرة لها للحصول على هذه الأموال، فهي على يقين أن إدارة جمهورية قادمة سوف تتبنى سياسات مشددة تجاهها أو حتى قد تنسحب من اتفاق نووي حال التوصل إليه.
ويعزز ذلك الظن التكهنات التي يطلقها مسؤولون أمريكيون عن مستقبل المفاوضات الإيرانية في المستقبل القريب.
ونقل تحليل سابق نشرته شبكة "سي إن إن" الأمريكية عن علي فائز، مدير مشروع إيران في "Crisis Group"، وهي مؤسسة فكرية في واشنطن العاصمة، أنه مع اقتراب الولايات المتحدة من انتخابات الكونغرس النصفية، فقد تتضاءل رغبة إدارة بايدن في التوصل إلى اتفاق.
وقال إن "المشكلة هي أن الديمقراطيين سيفقدون سيطرتهم على الكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني، وهو ما سيقلل بدوره من مصلحة إيران في التعامل مع إدارة عرجاء لم تعد تسيطر على الكونغرس".
وتوقع فائز أن يقرر الإيرانيون أنهم يرغبون في تأجيل الاتفاق حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة عام 2024، مع الحفاظ على نفوذهم.
لكن الإيرانيين لديهم انتخابات رئاسية خاصة بهم في عام 2025 وسيجب عليهم، وفقا لفائز، انتظار نتائجها.
وعند هذه النقطة، ستكون الصفقة قد ماتت وسيتعين على الأطراف التفاوض على اتفاق جديد من الصفر، والتي من المحتمل أن يستغرق الأمر بضع سنوات.
وبالتالي فإن الخيارات ليست بين صفقة الآن أو ستة أشهر من الآن، بل هي بين صفقة الآن أو ست سنوات من الآن.
وأضاف فائز أنه بالنظر إلى مدى قرب إيران بالفعل من سلاح نووي، فإن الوضع الراهن غير مستدام.
عاجلاً أم آجلاً، من المرجح أن تتخذ إسرائيل أو تشجع الولايات المتحدة على القيام بعمل عسكري لعرقلة برنامج إيران النووي، مما قد يؤدي إلى اندلاع حريق إقليمي كارثي.
وهنا تظهر مجددا أهداف التقارب والمصالحات الإقليمية لاحتواء السيناريوهات التصعيدية بالمنطقة في الفترة المقبلة.