عرقلت طهران العرض الذي يقوم على مبادلة الأراضي بين أرمينيا وأذربيجان على خط يلشين – زنغزور لأنه يقوي النفوذ التركي ويسقط ورقة "الجيوسياسي" في جنوب القوقاز من يدها.
يهمها هزيمة باكو سياسياً بعد انتصارها الأخير في قره باغ لكنها لا تعرف كيف ومع من ستفعل ذلك؟
هل تسمح إيران ليريفان بتوريطها في مواجهة عسكرية مع أذربيجان وتركيا؟ أم هي ستكتفي بتطمينات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول أن البديل لتفعيل خط زنغزور التجاري في حال رفض أرمينيا المشاركة فيه سيكون الجانب الإيراني؟
لم يأخذ رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان كثيراً بنتائج حرب قره باغ الثانية في خريف عام 2020، فصدمه قدوم خريف عام 2023 ليسقط كل حساباته ورهاناته على توازنات حساسة في جنوب القوقاز.
تخلى عن ورقة "قره باغ" لإنقاذ أرمينيا من المواجهة المباشرة مع باكو. وعول على دعم غربي وتفهم روسي وتلويح إيراني باتجاه باكو وأنقرة على السواء فوصل إلى طريق مسدود وخيبة أمل.
بالمقابل، أعاد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف إقليم قره باغ إلى حضن الوطن، مستفيداً من الدعم التركي - الإسرائيلي الواسع والضوء الأخضر الروسي وقرار إيران مراجعة سياستها الأرمينية بعد تمسك يريفان بخيار الورقة الغربية في لعبة التوازنات الحساسة بجنوب القوقاز. طهران بسبب الملايين من الأذريين عندها لن تغامر بإشعال الداخل والتصعيد أكثر من ذلك مع باكو وأنقرة إرضاءً لأرمينيا.
أفشل الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف في اللحظة الأخيرة محاولة أوروبية – فرنسية تحديداً – لاسترداد النفوذ على خط جنوب القوقاز، عبر التوسط بين باكو ويريفان بهدف معالجة ما تبقى من خلافات بين الطرفين. علييف تراجع عن المشاركة في قمة إسبانية لهذا الغرض بحضور رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان بسبب عدم الموافقة على شرط انضمام تركيا، وتصريحات وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو ووزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا التصعيدية ضد أذربيجان، "باكو لا ترى ضرورة لمناقشة مشاكل المنطقة مع دول بعيدة عن المنطقة، كما أنها تعتقد أن مسألة العلاقات مع أرمينيا يمكن مناقشتها وحلها ضمن الإطار الإقليمي".
الرئيس الأذربيجاني يستقوي بوقوف أردوغان إلى جانبه على كل الجبهات، وآخر اللقاءات كان على مقربة من الحدود الإيرانية ومن إقليم نهشفان في أواخر الشهر المنصرم لتوجيه الكثير من الرسائل إلى العديد من الأطراف.
رحبت طهران بما قاله أردوغان حول الممرات التجارية وفوائدها في المنطقة، لكنها ذكرت بمعارضتها لخطط التغيير الجيوسياسي ومحاولات إعادة رسم الحدود. باشينيان هو الذي يتسبب بنسف المشروع الإيراني وفرص مواصلة التنسيق مع إيران، من خلال انفتاحه الواسع على العواصم الغربية قبل البحث عن الإجابة عن سؤال هل ستأخذ أنقرة وباكو بما تقوله طهران؟
حذرت إيران جارتها أذربيجان أكثر من مرة بعدم "اللعب بالنار"، في جنوب القوقاز ومحاولة بناء تحالفات تتعارض مع مصالح طهران وحساباتها هناك. ما يقلق القيادة الإيرانية هو تراجع نفوذها الجيوسياسي، والذي ينهي التقارب الإيراني الأرميني لصالح بناء تكتل تركي أذربيجاني إسرائيلي يتحول إلى قوة سياسية عسكرية اقتصادية ضاغطة عليها أولاً. ثم تمهد لسقوط أحجار دومينو ثبتتها طهران بدقة وحذر في تلك البقعة الجغرافية، التي تعتبر الثروات الطبيعية ومصادر الطاقة والممرات التجارية حولها بين أهم العوامل التي ترسم خرائط التحالفات والاصطفافات الحالية فيها ثانياً.
نظرة خاطفة على خريطة الدول المجاورة لأرمينيا اليوم توصلنا إلى أنها محاصرة بين 3 دول وأن منفذها البري الوحيد هو 45 كلم من الحدود المشتركة مع إيران. حسم ملف الخلاف في قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا وإلحاقه باتفاقية سلام بين البلدين، يعني فتح الطريق أمام تفاهمات أوسع مع تركيا وجورجيا وهذا ما يقلق إيران أيضاً، لأنه سيكون على حساب السياسة التي بنتها منذ عقود في جنوب القوقاز وإقليم نهشفان وممر زنغزور الاستراتيجي.
سهلت باكو لجارتها يريفان مهمة مراجعة مواقفها وسياساتها في التعامل مع ملف "قره باغ" ومسار ومستقبل العلاقات الثنائية بين الطرفين. فكيف ستتصرف إيران؟
انحازت إيران إلى الطرف الأرميني في ملف إقليم "قره باغ" بسبب تباعد المصالح والسياسات مع تحالف أنقرة – باكو – تل أبيب في جنوب القوقاز. لكنها خسرت الرهان على أرمينيا وخاب أملها في احتمال بقاء روسيا على الحياد بين طرفي النزاع كما فعلت مرارا.
كما سقطت في مصيدة انتظار الفرج من العواصم الغربية وتحديدا واشنطن لتدخل على الخط في اللحظة الأخيرة محاولة إبقاء الأمور على ما هي عليه في جنوب القوقاز رغم كل عمليات خلط الأوراق والاصطفافات وتبدل المعادلات هناك.
ما يقلق طهران أكثر هو تراجع نفوذها في القوقاز بعد خسارة ورقة استراتيجية شرق أوسطية أخرى لا تقل أهمية عن ذلك. مشروع الخط التجاري العراقي الإقليمي انطلاقاً من ميناء الفاو باتجاه الأراضي التركية التي ستلعب دور جسر العبور العراقي باتجاه أوروبا. المفاجأة الصادمة لطهران قد تكون أكبر عندما يتحول المشروع العراقي إلى عقبة في مواجهة الخط الحديدي أو ما سُمي مشروع "الربط السككي" بين إيران والعراق وسوريا، الذي سيتيح لطهران الوصول إلى البحر المتوسط عبر الأراضي العراقية باتجاه ميناء اللاذقية على الساحل السوري.
ردة الفعل العسكرية الأمريكية والإسرائيلية في دير الزور من خلال استهداف مواقع إيرانية لا يمكن فصلها عن الرسائل الموجهة لطهران التي تحاول البحث عن خط بري تشرف عليه بين شرق الفرات وشمال العراق ومحاولة إرضاء "قسد" وقيادات السليمانية على السواء لأخذ ما تريد. وصول الخطة إلى طريق مسدود يرفع درجة التوتر الإيراني الإقليمي الذي يخسر المزيد من القلاع لصالح تركيا وتحالفاتها الجديدة. تحريك مجموعات الجناح الإيراني في "حزب العمال الكردستاني" المنفتح على المليشيات العراقية المقربة من طهران لعرقلة التفاهمات بين أنقرة وبغداد ليس مستبعداً في تركيا.
سحب ورقة أرمينيا من يد طهران المتبقية لها في جنوب القوقاز كسلاح تحركه ضد أذربيجان وتركيا وإسرائيل، هو آخر وأخطر ما قد يدفعها للتلويح بسياسة اللجوء إلى القوة وتهديد باكو تحت ذريعة فتح مناطقها الحدودية مع إيران أمام التوغل الإسرائيلي.
استحالة جلوس إيران أمام طاولة تنسيق مع الغرب في القوقاز، رغم التقاء المصالح في مواجهة الصعود التركي الروسي، يحرمها فرصة البحث عن سيناريو من هذا النوع. حتى السيناريو البديل الذي قد ترى فيه فرصة ممكنة وهو بناء تحالف ثنائي مع الصين في آسيا الوسطى والقوقاز، يبعد عن الواقع كون بكين ترى أن مصالحها هناك قد تكون أقوى من خلال الانفتاح على تركيا وإسرائيل بدلاً من اعتماد الخيار الإيراني.
امتحان علييف وأردوغان كبير أيضاً. فالمهم الآن هو إقناع المغادرين لقره باغ بالعودة لسحب ورقة اللجوء من يد بعض العواصم واللوبيات وتحت شعار أن أرض أذربيجان تتسع لجميع مواطنيها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة