بعد هدوء عسكري وجمود سياسي لأكثر من عامين للملف السوري، تعودُ البلادُ إلى التصعيد العسكري المفاجئ وعلى جميع الجبهات بين الأطراف المتصارعة من جهة، وفي داخل المناطق التي يسيطر عليها كل طرف من جهة أُخرى.
ولكنّ الأخطر يكمن في دخول الصدام العسكري مرحلة جديدةً على مستوى الأهداف والأساليب، وهو ما يُنذِرُ بولادةِ خريطة نفوذٍ جديدة ومسارات سياسية غير معهودة، تُشير إليه بوضوح تامٍّ معطيات الميدان الملتهب، كما يأتي:
أولاً: جبهة الحكومة السورية: تبسطُ الحكومة السيطرة على مناطق واسعة من البلاد، لتشهد هذه المناطق هدوءاً شبه تام كان أقرب إلى الاستقرار منه إلى التصعيد؛ فيما عدا بعض الحوادث الأمنية والمناوشات الاعتيادية على الحدود مع مناطق سيطرة فصائل المعارضة المسلحة في الشمال وبؤر تنظيم "داعش" الإرهابي في البادية السورية، فكان الهاجس الاقتصادي والسياسي هو الهم الأكبر للحكومة، إلا أنّ تطورات مفاجئة بدأت بتغيير المشهد بدءاً بالحراك الداعي إلى المظاهرات في الجنوب، وتمرد قائد الدفاع الوطني في الشمال الشرقي وقتله فيما بعد، ليأتي بعد ذلك الحدث الأكبر قبل يومين؛ وهو الهجوم الإرهابي بالمسيّرات على حفل تخريج الضباط في الكلية الحربية في حمص، الذي راح ضحيته ما لا يقل عن مائة ضحية من المدنيين والنساء والأطفال والعسكريين، وهو تطورٌ غير مسبوق على مستوى الهدف؛ لمَا تشكّله هذه الكلية من حساسية عسكرية وأمنية، وعلى مستوى الأسلوب؛ لأنّ استخدام هذه المسيّرات بهذه الدقة والزخم يُعدّ سابقةً في طبيعة الهجمات التي تتعرض لها الحكومة، نظراً لما تتطلبه هذه الهجمات من موارد مالية وبشرية وتقنية وتدريبية.
ثانياً: جبهة (قسد): شهدت مناطقها هي الأُخرى هدوءاً في الفترة السابقة، فيما عدا بعض الاستهدافات المتفرقة للمسيّرات التركية لبعض قادتها، ولكنها تعرضت لهزة عنيفة قبل أكثر من شهر جرّاء الصدام مع مجلس دير الزور العسكري بعد اعتقال قواتها لقائده "أحمد الخبيل" وما نتج عنه من صدامٍ مع قوى عشائرية موالية له في دير الزور، لتشهد مناطقها تصعيداً هو الأعنف قبل يومين من قبل القوات التركية التي كثفت هجماتها بالطائرات المسيّرة والمدفعية الثقيلة وعلى طول الحدود من عين العرب "كوباني" غرباً إلى المالكية "ديريك" شرقاً، وهي المرة الأولى التي يتطور فيه الزخم الهجومي التركي على مناطق "قسد" ليشملها كلها من جهة، ولتدخل أهداف جديدة ولأول مرة إلى مراميه ومقاصده من جهة أُخرى؛ لا سيّما وأنّ القصف تركّز على إخراج معظم محطات النفط والغاز والطاقة الكهربائية عن الخدمة، بالإضافةِ إلى ضرب صوامعَ للحبوب، على خلفية هجومٍ إرهابيٍّ تبناه حزب العمال الكردستاني في أنقرة، بالإضافة إلى إسقاط التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمسيّرة تركية اقتربت من قاعدة "تل بيدر" التابعة للتحالف في ريف الحسكة، والتوعد بمواصلة الهجوم على البنى التحتية والعسكرية في مناطق "قسد".
ثالثاً: جبهة فصائل المعارضة في الشمال: هذه المنطقة أيضاً كانت تشهد شبه استقرارٍ حتى وقتٍ قريبٍ، إلا أنها هي الأُخرى شهدت منذ فترة وجيزة اضطرابات داخلية بين فصائلها؛ تمثلت بحرب المعابر فيما بينها في أواخر سبتمبر/أيلول المنصرم، وذلك بعد معارك عنيفة بين الجيش الوطني المعارض و"هيئة تحرير الشام" التي يقودها (الجولاني) على معبر "الحمران" في "جرابلس" بريف حلب الشرقي، وهو ما يفسره محللون بأنه توجُّسٌ من الجولاني الذي يبحث عن أرض جديدة لتنظيمه بعيداً عن "إدلب" التي قد يتم التفاهم عليها بين الحكومة السورية والجانب التركي، لا سيما بعدَ الحديث عن الاتصالات بين دمشق وأنقرة من أجل تطبيع العلاقات، وهو الأمر الذي إنْ حدثَ فلا مكان للجولاني في هذه التسوية، وهو المصنف على القائمة الإرهابية السوداء لدى الحكومة السورية، خاصة بعد أن اتهمت الحكومة السورية "تحرير الشام" - وهي "جبهة النصرة" سابقاً- بالوقوف وراء الهجوم الإرهابي الدامي على حفل التخرج في الكلية الحربية، فشنّت على مناطقها ومناطق فصائل المعارضة في الشمال هجوماً عنيفاً، متوعدةً بالردّ القاسي والعنيف.
كل هذه التطورات المتسارعة والتصعيد غير المسبوق على جميع الجبهات السورية وداخلها، بالإضافة إلى تطور الصراع على مستوى الأهداف والأساليب من الأطراف كافة، يُنبئُ بدخول الملف السوري مرحلة جديدة تعيد رسم خريطة النفوذ وخلط الأوراق، وربما إعادة ترتيبها وفق مسار سياسي جديد يرسم ملامح خريطة طريق بديلة للمسارات السياسية السابقة التي وصلت إلى طرق مسدودة، كمسار أستانة واللجنة الدستورية ومنصات المعارضة المتعددة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة