منذ سقوط "نظام صدام حسين" والساحة العراقية تواجه صراعا سياسيا إيرانيا لفرض النفوذ وصراعا عسكريا أمريكيا لفرض الكلمة والسيطرة على الأرض.
منذ سقوط النظام العراقي السابق "نظام صدام حسين" على يد الولايات المتحدة والساحة العراقية تواجه صراعا سياسيا إيرانيا لفرض النفوذ وصراعا عسكريا أمريكيا لفرض الكلمة والسيطرة على الأرض، ولكن هذا الصراع قد تم الترويج له وتصويره على المستويين الإعلامي والدبلوماسي، أما في الواقع فقد كان هذا الصراع محكوماً بتفاهمات وتنسيق بين الطرفين وما يثبت ذلك هو الوجود العسكري الأمريكي وسيطرته على العراق كاملاً والوجود السياسي الإيراني في ظل الوجود العسكري الأمريكي. وقد توضح ذلك من خلال التيارات السياسية العراقية الموالية لطهران وعلى رأسها حكومة المالكي التي حكمت العراق لسنوات وبتأييد أمريكي -على الرغم من ولائها المطلق لإيران– على حساب التيارات السياسية الأخرى وكانت كل هذه الأذرع السياسية المؤيدة لطهران تحكم البلاد من المنطقة الخضراء المحمية أمريكياً وسط بغداد.
قد لا يستمر الوضع على ما هو عليه من محاولات فرض النفوذ بين الطرفين الأمريكي والإيراني من خلال الأجندات السياسية والرسائل غير المباشرة فربما ينفجر الوضع في أي لحظة ليتطور إلى صدام عسكري مباشر، ولكن اللافت في الأمر أن كل الأجندات موجودة ومطروحة بقوة وجدية باستثناء الأجندات الوطنية العراقية
إن ذلك الجو من التفاهم الذي كان يحكم المشهد بين الطرفين الأمريكي والإيراني في العراق لم يعد اليوم كما كان عليه بل تحول ذلك التفاهم إلى عداء، وانقلب التنسيق إلى صراع تعدى الصراع الإعلامي والدبلوماسي ليصل إلى مرحلة المواجهة التي أصبحت هي السمة المباشرة للعلاقات الأمريكية الإيرانية منذ أن تولى الرئيس دونالد ترامب السلطة وأعاد فرض العقوبات والعزلة على طهران، إيران بدورها انتقمت لهذه الإجراءات من خلال نقل المعركة إلى الساحة العراقية وفرض التيارات الموالية لها لتسلم رأس السلطة وتأليب الشارع العراقي الذي غدا منقسما بين رافض للوجود الأمريكي على الأرض العراقية وآخر مناهض للمشروع الإيراني وتغلغل إيران في مفاصل الدولة وتحكمها بفرض أجنداتها على السياسة العراقية ما أدى إلى الاضطراب وانقسام التيارات وتعدد الائتلافات السياسية.
كل هذه التباينات ألقت بظلالها على العراق أرضا وشعبا وحكومة بدءاً بولادة حكومة "عبدالمهدي" التي تشكلت بعد عناء طويل وبصعوبة بالغة بالإضافة إلى الانتخابات النيابية ومعضلة اختيار رئيس البرلمان وانتهاء بانتفاض الشارع العراقي على الحكومة العراقية وسياستها وساستها الذين يراعون مصالح الخارج وإثبات الولاء لطهران أو واشنطن على حساب مصالح البلاد والشعب، وما ذلك التباين إلا نتيجة الصدام بين مخططات إيران ومحاولتها الحفاظ على بوابة العراق التي تعد المتنفس الوحيد لها بعد فرض العقوبات عليها وعزلها عن المجتمع الدولي. فلم يعد أمامها سوى العراق لضرب الحصار الاقتصادي المفروض عليها من جهة والضغط على واشنطن لخفض التصعيد من جهة أخرى فالعراق بالنسبة لإيران قضية وجود لن تدخر جهدا في محاولة التمسك بنفوذها فيه ولذلك بدأت بإرسال الرسائل التصعيدية العسكرية عن طريق مليشيا "الحشد الشعبي" المدعومة إيرانيا بالكامل، والتي تهدد ليل نهار بضرب القواعد الأمريكية وإجبارها على مغادرة العراق ولو بالقوة في إشارة إلى أن هذه المليشيا فيما إذا تطورت الأمور وتعقد المشهد ستكون ورقة وقوة ضاربة بيد إيران، هذا إلى جانب الرسائل السياسية من خلال دفع البرلمانيين المدعومين إيرانيا بالدعوة في البرلمان العراقي إلى جعل قرار الانسحاب الأمريكي من العراق أولوية للحكومة.
أما الجانب الأمريكي والمحكوم بإدارة الرئيس "ترامب" الذي يحكم بمنطق رجل الأعمال، فإن العراق بالنسبة له أرضا اقتصادية خصبة لا مجال لتركها ومنطقة نفوذ لا يمكن التنازل عنها لا سيما بعد التصعيد مع طهران وفرض العقوبات عليها، فإذا تراخت اليد الأمريكية عن العراق فستفقد العقوبات فاعليتها، ومن الرسائل العسكرية التصعيدية التي وجهتها أمريكا في هذا الصراع نقل جل الجنود الأمريكيين بعد قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا إلى العراق في إشارة إلى أن أمريكا تنسحب من سوريا ولكنها لا تنسحب من المنطقة، ولن تدع إيران تسرح وتمرح كيفما شاءت، أما أبرز تلك الرسائل على الصعيد السياسي هي زيارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" إلى القواعد الأمريكية في العراق عشية عيد ميلاد المسيح دون إخطار حتى الجهات الرسمية العراقية، وهي رسالة تفيد أن الوجود الأمريكي مفروض بالقوة وليس بحاجة لموافقة أو قبول حتى من العراقيين أنفسهم، ما أثار جدلاً واسعاً على الصعيد السياسي والشعبي.
قد لا يستمر الوضع على ما هو عليه من محاولات فرض النفوذ بين الطرفين الأمريكي والإيراني من خلال الأجندات السياسية والرسائل غير المباشرة فربما ينفجر الوضع في أي لحظة ليتطور إلى صدام عسكري مباشر. ولكن اللافت في الأمر أن كل الأجندات موجودة ومطروحة بقوة وجدية باستثناء الأجندات الوطنية العراقية التي لا وجود لها إلا إعلاميا. أما في الواقع فإن مصالح العراق والمواطن العراقي مغيبة تماما بنفس قدر غياب الدور العربي الفعال في العراق على الرغم من محاولة العراق اليوم التوجه إلى المحيط العربي وتقوية العلاقات مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والتي تمثلت خلال زيارة الرئيس العراقي للمملكة وفتح المعابر الحدودية مع "الرياض" كإعادة فتح معبر "عرعر" الحدودي. وعلى الرغم من أهمية ذلك إلا أنه ليس كافياً فاليوم العراق والعرب عموما أمام تحد كبير لإعادة العراق إلى المسار العربي الذي هو في الأساس مساره الطبيعي وإنقاذه من الضياع في زخم هذا الصراع على النفوذ ومساعدته في تغليب المصالح الوطنية العراقية على كل مصلحة والاتساق مع أشقائه العرب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة