المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها العراق فرضت رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي من أجل انقاذ العملية السياسية.
مما لا شّك فيه أن المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها العراق فرضت رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي من أجل انقاذ العملية السياسية بعد انتظار أشهر عديدة من استقالة عادل عبد المهدي.
استراتيجّيًا، فهو رجل المرحلة، لأنه الأكثر مرونة من المرشحيّن السابقين، مع تركيزه على استعادة هيبّة الدولة والقانون. فقد أثبت خلال أسبوع من حكمه كشخصية حوارية مع الأطراف السياسية المتصارعة الأخرى.
يأتي هذا الخيار في ظروف ملائمة، وإيران البلد الضاغط على مجريات السياسية العراقية، في حالة ضعف نتيجة العقوبات الأمريكية، وعلى الخصوص بعد مقتل قاسم سليماني، ذراعها الضارب. العراقيون فقدوا الثقة بالحكومات السابقة، والدليل على ذلك، التظاهرات الاحتجاجية التي لم يتمكن أحد إيقافها سوى وباء كورونا في الوقت الذي يحلم به العراقيون رؤية ولادة دولتهم المدنية بانتخابات نزيهة، بعيدة عن المال والسلاح والطائفية.
منذ ابن خلدون وأفلاطون وأرسطو وجان جاك روسو، كما هو معروف، ومفاهيم الدولة متنوعة إلا أنّها تشترك في قيمة واحدة هي الدولة المدنية، التي ركز عليها الاسلام باعتبار السلطة مرهونة بالتغيير مع الحفاظ على قوانينها الثابتة.
الجميع يعلم أن السيادة الوطنية لا تتحقق بدون السيطرة على المنافذ الحدودية، وغلق مونئ تصدير النفط الخاصة بالأحزاب والمليشيات، وحصر السلاح بيد الدولة.
هذا الكيان لم يعد موجودًا منذ عام 2003 بعد تفكيك آليات الدولة، و إطلاق الفوضى "الخلاّقة"... في دوامة استمرت طيلة سبعة عشر عامًا. ومهمة الكاظمي تتركز في هذه المرحلة على إعادة بناء هذا الهيكل المُفكّك، والمضي بمفهوم الدولة صاحبة القوة العليا فوق التنظيمات أو الجماعات الأخرى إذ لا يمكن أن تمارس الدولة المدنية وظائفها الطبيعية في ظل عوامل قاهرة مثل انتشار المليشيات المسلحة، والضغوطات الايرانية، وشبه استقلال إقليم كردستان.
هل يستطيع الكاظمي الذي بدأ بقرارات لاقت الترحيب المحلي والإقليمي والدولي، أن يحقق مفهوم الدولة الحقيقي وترك أوهامها؟ الجميع يعلم أن السيادة الوطنية لا تتحقق بدون السيطرة على المنافذ الحدودية، وغلق مونئ تصدير النفط الخاصة بالأحزاب والمليشيات، وحصر السلاح بيد الدولة، ومنع تحويل أرض العراق إلى ساحة للصراعات.
وجاء الكاظمي ببعض الحلول لهذه الملفات الشائكة التي لا تزال مُعلقة في أروقة القضاء وهيئة النزاهة، وقانون الانتخابات الجديد، والمحاصصة الطائفية والعاطلين عن العمل، والفساد ووباء كورونا والاستجابة لمطالب المتظاهرين، وغيرها من الملفات التي تنتظر الحلول العاجلة التي تضع الكاظمي على المحّك العملي.
وفي ذلك، بات واضحًا أن الحكومات المتعاقبة خلقت نوعًا من الدولة الفاشلة قبل مجيء الكاظمي، ومردها يعود إلى هيمنة الأحزاب والكتل السياسية في تسيير مفاصل الدولة، من وراء الكواليس ما جعل أدى إلى غياب قرارات الدولة التي تأسست في 1921 في ظل انعدام الثقة وفقدان الشفافية والاستقلالية والمحاسبة.
وعملت الكيانات المسلحة التي ظهرت على تعطيل آليات عمل الدولة أو تحريف قراراتها لمصلحة فئة معينة من المجتمع وحرمان الفئات الأخرى منها. وإن استعادة هيبة الدولة القانون هي العقبة الكأداء التي تواجه حكومة الكاظمي في الوقت الراهن.
وفي المعادلة أيضًا، يجب أن لا ننسى التظاهرات الاحتجاجية، بمفهومها في التمرد ورفض الحكومات المتعاقبة، أفرز نتئج ايجابية في كسر حاجز الخوف، وتحرير وعي الناس بالهويّة العراقية التي تتجاوز الهويّة المذهبية التي يروّج لها الخطاب التبريري. وإطلاق سراح المتظاهرين من السجون، جزء من الاصلاح الذي قام به الكاظمي مؤخرًا في هذا الطريق أي استعادة مفهوم الدولة والسيادة الوطنية.
مما لا شك فيه، إن ولادة مفهوم الدولة الفاشلة أصبح عنصرًا اساسيًا في مؤشرات التقييمات الدولية السنوية عن الدول الفاشلة في تأدية وظائف إدارة الحكم، وليس غريبًا، ونتيجة للسياسات السابقة، أن يتبوأ العراق المرتبة الخامسة من سلم مؤشرات لدول العربية الفاشلة.
وما زاد في اتساع الهوة بين مفهوم الدولة وأوهامها هو عدم لجوء العراقيين إلى القانون أو إلى مؤسسات الدولة، وإنما إلى الأحزاب والميليشيات والطوائف والعشائر ورجال الدين وغيرهم مما أفقد الدولة آخر بريق لها.
وما يزيد الأوضاع خطورة في التقليل من أهمية الدولة و مركزيتها هو ظهور أسباب جديدة غير متوقعة مثل انخفاض أسعار البترول ووباء كورونا وتفشي الفساد. إضافة إلى الظروف المحلية والدولية التي تُشكل عوائق كبيرة أمام ولادة مفهوم الدولة الطبيعية، ولا يمتلك رئيس الوزراء الجديد عصا سحرية في استعادة هيبة الدولة والقانون إلا من خلال القرارات التدريجية التي تحفر في المجتمع وتؤثر فيه، وهنا يبرز الواقع الاقتصادي كأكبر تحدٍ للدول العراقية منها تعثر الدولة في الايفاء بتعهداتها مثل رواتب القطاع العام الذي يأكل نصف ميزانية الدولة، في ظل انعدام موارد الزراعة والصناعة.
إن إعادة ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها عنصر أساسي في انجاح حكومة الكاظمي، وإخراج العراق من دائرة تصنيف الدولة الفاشلة. فهل يتمكن الكاظمي انقاذ الدولة العراقية بعد أن اصابها التفكّك والوهن؟ هذه هي المهمة الكبرى أمام رئيس الوزراء الجديد وكابينته الوزارية في إعادة حلم العراقيين بولادة دولة تعمل في الفضاء العام وليس في الفضاء الخاص. وهذا ما يحلم به العراقيون بعد السنوات العجاف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة