التجنيد الإلزامي في العراق.. هل يعيد الأسوار إلى الوطن؟
عند رابية عسكرية في أطراف بغداد، كان محمد حسين عطشان، ينتظر أخبار المعركة مع الجيوش الأمريكية إبان الحرب في العراق مارس/آذار 2003.
عطشان كان جندياً، يكمل خدمته الإلزامية المقررة 36 شهراً، بعد أن قضى منها نحو عام ونصف العام، ولكن سقوط نظام بغداد آنذاك، أنهى ما تبقى منها وكبقية العساكر الآخرين، عادوا إلى منازلهم وغادروا "البدلة الخاكية"، كما توصف في اللهجة العراقية.
غالباً ما كان التجنيد الإلزامي في العراق قضية تورق أحلام الشباب، وتطارد مرح وزهو أعمارهم اليافعة خشية الانتقال بين ليلة وضحاها من ترف المنازل إلى قسوة الثكنات والأوامر، خصوصاً عندما تكون هناك نيران مستعرة عند الجبهات.
"عطشان" الذي ما زال يحتفظ بزيه العسكري الذي حمله في حقيبة بلاستيكية لحظة مغادرته مقره العسكري ليلة الـ9 من أبريل، يبدي خشيته من عودة التجنيد الإلزامي بعد 18 عاماً من التعطيل.
وكان مجلس الوزراء العراقي أعلن أول أمس الثلاثاء، عن إرسال مشروع قانون إلى البرلمان يعيد تطبيق ما يسمى "خدمة العلم"، ولكن بتصرف يختلف عما كانت عليه سابقاً.
يقول "عطشان" الذي خدم في الجيش العراقي المنحل، إن راتب الجندي كان لا يعادل ثمن بدلة عسكرية لشرائها، فضلاً عن الظروف القاسية التي يعيشها الجنود من سوء تعامل وامتهان لكرامة البشر.
في القانون العراقي الجديد، بحسب ما كشفت عنه لجنة الأمن والدفاع بالبرلمان، فإن جميع الأعمار التي عايشت نظام صدام حسين في الخدمة الإلزامية ستكون خارج حسابات الأعمار المطلوبة.
وينص مشروع القانون الجديد على أن الخدمة العسكرية الإلزامية ستكون فرضا على كل الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 19-35 عاما، في حين أن الخدمة العامة في الجيش تتراوح بين 9-18 شهرا، حسب التحصيل العلمي.
فيما يرى لطيف جبار، الذي خاض أغلب المعارك خلال الحرب العراقية الإيرانية بصفة جندي عريف، أن "التجنيد الإلزامي يصلب عود الشاب ويعلمه فنون الصبر والقدرة على تحمل أعباء الحياة".
"جبار"، كان قد غادر الحياة العسكرية والحرب في ثمانينيات القرن الماضي قبل انتهائها بنحو شهرين، إثر إصابة بانفجار لغم أرضي، تسبب ببتر كف قدمه اليسرى.
سقوط الهويات الفرعية
ومع أن الكثير من المختصين والمعنيين بالشأن الأمني والسياسي يؤيدون العودة إلى نظام التجنيد الإلزامي، كونه يسهم بقدر كبير على إرساء المواطنة والتقليل من "مناطقية الولاء"، إلا أن فكرة الجندية قد تنمطت داخل العقل الجمعي العراقي وارتبطت بمآسي وحروب شبه دائمة.
الأكاديمي العراقي والمختص في العلوم السياسية، عمر حمزة، يؤكد أن غياب الجندية الإلزامية قد فتح الباب لظهور ولاءات فرعية على حساب الوطن، وأصبح العمل ضمن السلك العسكري أمرا متعلقا بالماديات أكثر من كونه مرتبطا بواجب مقدس.
وبشأن الاعتراض والمخاوف التي تطفو على السطح جراء ذلك القانون الذي بصدد مناقشته في البرلمان، يؤكد حمزة، خلال حديثه لـ"العين الإخبارية"، أن "أغلبها تتعلق بظروف استقرت في ذاكرة الأجيال العراقية ممن عاشوا ظروف الجندية خلال الأربعة عقود الماضية".
ومع التسليم بصعوبة تمرير مشروع القانون القادم من رئاسة الوزراء من قبل مجلس النواب العراقي خلال الدورة الحالية، إلا أن عودة التجنيد الإلزامي باتت مسألة وقت ليس أكثر كما يقول الأكاديمي عمر حمزة.
ومع ذلك فإن الخبير الاستراتيجي العراقي في مجال الأمن نوفل طه، يرى أن إقرار قانون التجنيد ورغم الامتيازات التي تمنح للجندي من كسوة وراتب شهري ومدة مخدومية إلا أن إقراره أقرب إلى "الترهات".
ويوضح طه، أسباب صعوبات إقرار القانون مستقبلاً، أن البناءات السياسية ما بعد 2003، جعلت من الصعب الذهاب باتجاه تأسيس جيش نظامي ذي ولاء وطني ويتحرك ضمن سلطة الدولة حصراً.
فالتطوع بالجيش والأجهزة الأمنية منذ 19 عاماً، بحسب طه، كانت ورقة انتخابية وسياسية للقوى التي تحكم البلاد، مما جعل العراق منطقة متخمة بأعداد من العناصر الأمنية والعسكرية لا تتوافق مع الحاجة الفعلية.
وعقب إعلان إسقاط نظام صدام حسين، أقدم الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر، على اتخاذ قرار بحل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، واعتماد التطوع بديلاً عن التجنيد الإلزامي.
وبحسب تقديرات غير رسمية، يمتلك العراق ترسانة بشرية من الجنود يتجاوز قوامها المليون فرد، موزعين في شتى الصنوف والمهام الأمنية.
ويمثل الإنفاق العسكري على رواتب العناصر الأمنية ومتطلبات التسليح والجوانب الفنية واللوجستية، نحو 18% سنوياً من قيمة الموازنة العامة للبلاد.
ورغم صعوبة التسليم بإقراره، يعلق طه الأمنيات على عودة التجنيد الإلزامي كونه سيقضي على الجيوش الفئوية ذات الارتباطات الخارجية ويسهم في تعزيز التماسك الوطني الذي أصابه الكثير بفعل السياسات الخاطئة ما بعد 2003.