اعتمدت الطبقة السياسية على عامل الزمن من أجل تفتيت الاحتجاجات والتظاهرات، ولكن ما دامت الأوضاع هي ذاتها لم تتغير.
تمر هذه الأيام الذكرى الأولى لانطلاق شرارة ثورة تشرين التي اجتاحت محافظات عراقية عديودة، وخاصة الجنوبية منها، التي يتكون غالبية سكانها من الشيعة الذين حرموا من أبسط الحقوق فيما يُسمى "حكم طائفتهم".
ولعل من روائع هذه الثورة أنها تخطت حواجز الطائفية بامتياز وقفزت على جميع المسلمات التقليدية التي أرادت الطبقة السياسية فرضها على المجتمع العراقي. وهذه الثورة بكل معانيها، شكلت صدمة كبيرة للحكومة العراقية.
ما الذي تغيّر بعد مرور عام على انطلاق هذه الثورة؟
مع جائحة كورونا توقفت التظاهرات التي لو استمرت لكانت أحدثت التغيير العميق في رأس السلطة، ورغم ذلك فهي أسقطت رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي.
لهذه الثورة جوهر عميق لن تتعلم منه الطبقة السياسية الحاكمة الدروس الثمينة في الوقت الذي تزداد فيه أوضاع العراق حدة وتوترًا داخليا وإقليميا وعالميا حتى ضاقت الإدارة الأمريكية ذرعًا بالسياسيين الحاليين الذين أصبحوا عالة عليها، وخاصة في تأليب مليشياتها في الخفاء على إطلاق صواريخ الكاتيوشا على السفارة الأمريكية والمنطقة الخضراء أو التغاضي عنها ودون معاقبتها.
إن الطبقة السياسية تجهل أن غلق آفاق الأمل في وجوه آلاف الشباب للحصول على الحياة الكريمة هو جريمة بكل المقاييس، وخاصة في مجال توفير الخدمات الأساسية في العمل والسكن والتعليم والصحة والماء والكهرباء والأمن.
لم يتغيّر وجه الحكم في العراق منذ سقوط حكومة عادل عبد المهدي في اعتمادها الجوهري على المحاصصة الطائفية، ولم يتم تقديم القتلة إلى المحاكمة بل ازدادت وتيرة القتل كما حصل مع اغتيال المحلل الأمني هاشم الهاشمي والطبيبة رهام يعقوب وغيرهما، ولا يزال عشرات المختطفين من أمثال جلال الشحماني ومازن عبد اللطيف وتوفيق التميمي في عالم الغيب.
إن مشاكل العراق قد تفاقمت واشتدت خلال العام الماضي ومنها نضوب الموارد بسبب انخفاض أسعار النفط، ومعاناة الناس من انتشار وباء الكورونا عالميا. لذلك لم يبق أمام الشعب العراقي سوى التعلق بثورة تشرين وأهدافها، أملاً بالتغيير المنشود. ولعل التغيير الكبير الذي حصل في أوضاع ثورة تشرين أنها تحوّلت من حركةً احتجاجية ذات طابع مطلبي إلى حركة واسعة تستهدف إسقاطَ النظام القائم أو إجراء إصلاحات جذرية فيه، وأهم ما في ذلك هو المطالبة بالهوية العراقية التي توارت منذ عام 2003 ليحل محلها مبدأ المكونات الذي جاءت به الطبقة السياسية. هذه الإعاقة -أي الطائفية- جعلت العراق يدور في فلك اللادولة ودهاليز المليشيات والأحزاب الدينية والمحاصصة والدولة العميقة.
ينتظر العراق الآن مهمّات عاجلة وهي: الانتخابات المبكرة، وإصلاح القانون الانتخابي ومفوضية الانتخابات التي تبناها المتظاهرون والمحتجون، ويعتبرونها بديلا عن نسف النظام من جذوره لأن هدفها هو القضاء على الفساد.
ولكن السؤال الجوهري هو:
هل ستقدم الانتخابات الجديدة العدالة الاجتماعية أم أنها ستعيد انتخاب الطبقة السياسية الفاشلة واجترار التجربة ذاتها؟
اعتمدت الطبقة السياسية على عامل الزمن من أجل تفتيت الاحتجاجات والتظاهرات، ولكن ما دامت الأوضاع ذاتها لم تتغير فإن الثورة ستتواصل لا محالة. وفي خضم ذلك، تنسى الطبقة السياسية أن رموز ثورة تشرين على وعي كبير بما يقومون به. وهم يشكلون مفارقة جذرية مع النظام المتأزم الذي يكرر ذاته مع كل حكومة جديدة. ولا يخدم سوى مصالح أحزابه السياسية المرتبطة بإيران ومصالحها في المنطقة.
الانفجار الاجتماعي الذي حدث قبل عام ارتبط بجوهر النظام القائم على الطائفية والمحاصصة، وهذا ما تطالب ثورة تشرين بإلغائه، واقتلاع الاستبداد والفساد والمحاصصة، وهو ما اعترفت به الطبقةُ السياسية نفسها، مؤكدة حاجتها إلى الإصلاح لأنها أوصلت العراق إلى الهاوية والإفلاس والعنف. وأثارت الغضب الشعبي الذي لم يهدأ منذ انطلاقته في ساحة التحرير رغم توقفه بسبب ظروف الجائحة، لكن هذا الغضب متراكم في النفوس ولا يمكن أن يخرج منه إلا برؤية علمية ومنطقية لما يمكن أن يكون عليه العراق من تطور وازدهار يستحقه.
إن الدرس المهم الذي تعلمته الأجيال من ثورة تشرين أنها تسعى إلى تغيير العملية السياسية وإنهاء النفوذ الإيراني، وبناء عراق جديد تكون السلطة فيه للعراقيين، وهذا ما يخيف الطبقة السياسية. ولعل أكثر ما يخيفها أن هؤلاء الشباب عزل ولا يقاومون بالسلاح بل بأرواحهم وقدراتهم ومطالبهم. وهو ما لم تتوقعه الطبقة السياسية التي تعتمد على أذرعها المسلحة التي أثبتت أنها لا تسعى إلى البناء والتعمير، بل إلى التدمير والخراب من خلال رهن مستقبل أجيال عراقية كاملة إلى إيران من أجل زعزعة المنطقة بكاملها وفرض أجندتها.
ثورة تشرين تأجلت لكنها لم تمت.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة