التأكيد على أن المزايدات الحزبية هي التي أوصلت إسرائيل إلى حال من التجاذب الكبير ربما يبدو صحيحا في بعض سياقاته.
واهم من يتصور أن إسرائيل مقبلة على تغيير وزاري أو إعادة ترتيب الائتلاف الحاكم في إسرائيل، خاصة أن استقالة وزير الدفاع الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان من موقعه ليس لفشله في إدارة مهامه، أو عجزه عن مواجهة التنظيمات الفلسطينية وقدراتها الصاروخية، حيث لا وجه مقارنة بين وسائل وأهداف الردع بين الجانبين، حيث ما زالت إسرائيل متقدمة في قدرات الردع بصورة مطلقة ولا تقارن بما هو على الجانب الآخر.
أزمة إسرائيل ليس في بقاء حكومة أو رئيس وزراء أو إعادة ترتيب أولويات الائتلاف الحاكم، بل الأمر مرتبط بتغيير بوصلة التوجه والهدف الذي يمكن لإسرائيل العمل من خلاله بدلا من الدوران في حلقة فراغ، وبناء الجدران الأسمنتية والإلكترونية حول حدودها الحالية تجاه مصر والأردن وغزة ولبنانأولا: ستستمر الحكومة الإسرائيلية الراهنة على حالها، ولن يعمل رئيس الوزراء الإسرائيلي على إحداث تغيير سياسي أو فك الائتلاف الحاكم، وإعادة تركيبه حزبيا من جديد في مثل هذه الأجواء السياسية المحتقنة، خاصة أن المزايدات طالت كل الأحزاب الراهنة، وليس فقط حزب إسرائيل بيتنا، ومن ثم فإن الحديث عن أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو سيتعجل الدخول في ائتلاف سياسي أو حزبي جديد غير صحيح، وإن كان سيعمل على الاستمرار من منطق المصالح العليا لإسرائيل، والتي تتطلب استمرار المشهد الراهن وعدم الذهاب لانتخابات مبكرة بعد 90 يوما من الآن، خاصة أنه هو شخصيا متابع أمنيا وملاحق قضائيا، ومن ثم فإن الرهانات على صندوق الانتخابات في إسرائيل لن يعمل لصالحه في الوقت الراهن، وليس لمصلحة الليكود في ظل تصاعد دور حزب البيت اليهودي وفيتالي بينت تحديدا وموشييه كحلون، وليس فقط أفيجدور ليبرمان الذي يريد التعجيل بالوصول لانتخابات مبكرة من الآن، ولو بمخالفة قواعد الكنيست والنظام الأساسي، وهو ما لن توافق عليه الأحزاب السياسية على مختلف توجهاتها، خاصة أن وزير الدفاع ليبرمان ليس بالكريزما السياسية الكبيرة القادرة على أن تسوق لنفسها في ظل استطلاعات الرأي التي تؤكد فشله الكبير في إدارة وزارة الخارجية والأمن، وأنه يصلح فقط لقيادة حزب وليس دولة، وهو ما يدركه جيدا وإن كان يناور في ظل الحالة السياسية التي يبدو عليها رئيس الوزراء نتنياهو في الوقت الراهن، والتي تجعله -رغم كل مساوئه وسلبياته الراهنة، وفشله سياسيا وحزبيا- هو الأفضل لقيادة إسرائيل وحتى العام المقبل؛ موعد إجراء الانتخابات المقبلة في موعدها، وهو ما لم يحدث في أي كنيست سابق؛ حيث لم يستكمل مدته الاستحقاقية وفقا للمقرر في النظام الانتخابي الإسرائيلي.
ثانيا: ليست القضية إذن أزمة حكومة تواجه مأزق الاستمرار في ظل غياب السياسات العامة، وافتقاد الرؤية وهجوم السياسيين والأكاديميين على إدارة الأوضاع في الداخل، فصحيح أن إسرائيل حققت بالفعل تقدما علميا كبيرا، ونجحت في تحقيق معدلات كبيرة في النمو ونسب التشغيل، وقدرات في الاقتصاد التعاوني، وقدمت الكثير من التقارير الدولية خاصة تقرير التنمية البشرية، إلا أن هذا الأمر وفي المقابل يواجه بفشل سياسي حقيقي داخلي، وغياب التوافقات وتحديد الرؤية الجمعية فالمجتمع المتقدم علميا وتكنولوجيا يواجه أزمة حقيقية من عدم وجود الأولويات والسياسات الممتدة، والتي رسمت إسرائيل مساراتها لسنوات طويلة، ووصلت في بعض الخطط الاستراتيجية إلى 2028 و2035، ومع ذلك لا تزال الصورة غير واضحة في مجتمع افتقد فيه الإسرائيليون الأولويات، والقيادات القادرة على الحسم، والمواجهة وتبني السياسات وتنفيذها والشروع في تحقيق الغايات العليا للدولة التي لا تزال بعد 70 عاما من قيامها تعاني من أزمة هوية حقيقية، وما تزال عاصمتها محل خلاف وتشكك دولي كبير، وعدم اعتراف حقيقي بما وصلت إليه في محيطها العربي والإقليمي، وهو ما يشغل عقل وبال إسرائيل بأكملها، ومع ذلك لا تملك البدائل والسيناريوهات في مواجهته.
ثالثا: إن التأكيد على أن المزايدات الحزبية هي التي أوصلت إسرائيل إلى حال من التجاذب الكبير ربما يبدو صحيحا في بعض سياقاته، ولكن فعليا فإن الحكومات الإسرائيلية تباعا، ومنذ حكومة أولمرت تعاني من أزمة عدم استقرار حقيقي وتباين في الأولويات، فالرأي العام الإسرائيلي يسأل حكومته حول السياسات الراهنة تجاه الفلسطينيين تحديدا، وما الذي يمكن أن تقوم به في الفترة المقبلة؟ وليس الاستمرار في مواجهة حركة يراها الرأي العام الإسرائيلي أنها إرهابية ونفعية ومتطرفة، وأنه مهما قبلت من خيارات إلا أنها لن تذهب إلى حال من الاستقرار الكامل، ويكفي هنا الإشارة إلى الخطاب السياسي والإعلامي لأغلب وزراء الحكومة الإسرائيلية، ومن مختلف أحزاب الائتلاف والذين يرون حماس الخطر الأكبر، وأنه من الضروري التعامل معها وفق خيارات عسكرية، مع التسليم بأن بقاء حكم حماس يخدم المصالح الاستراتيجية العليا، ويحكم التوازنات بين القطاع والضفة الغربية، ومن المهم التأكيد على أن حال الرفض لاستمرار التهدئة يشمل 8 وزراء في الحكومة، ومع ذلك يناور رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالتأكيد على الاستمرار في خياراته من أجل مصالح إسرائيل العليا، وأن الوضع الراهن إسرائيليا يتطلب الاستمرار في سياسة التهدئة التي ستأخذ على الأقل 6 أشهر قبل الشروع في إجراء المرحلة التالية من الهدنة، والشروع في إطار ما يعرف بصفقة تبادل الأسرى بين الجانبين، والتي ستكون مرحلة جديدة بين الجانبين إن تمت والتزمت بها حركة حماس.
رابعا: يراهن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو على ما حققه من مكاسب بالانفتاح على الجانب العربي، وبدء الاتصالات العربية الإسرائيلية والإقدام على خطوات غير مسبوقة، ومنها زيارته لسلطنة عمان واستئناف الاتصالات المشتركة بصورة لافتة، وهو ما يعتبره مكسبا حقيقيا لا ينبغي إغفاله، بل التركيز على مساراته واتجاهاته، وهو الأمر الذي ما لم يستطع أي رئيس وزراء منذ حقبة التسعينيات القيام به، ولا شك أن هذه الورقة سوف يوظفها رئيس الوزراء في صراعه الحزبي مع الائتلاف اليمني إلى حين إجراء الانتخابات التشريعية، والتي ستجرى في العام المقبل، ووقتها سيكون لكل حادث حديث حقيقي يتعلق بمستقبل رئيس الوزراء نتنياهو الذي يمكن استجوابه مجددا وتوجيه اتهامات مباشرة مما قد يعزله من منصبه أو تحجم صلاحياته، وهو أمر وارد، أو أن يذهب حزب الليكود إلى تصعيد آخر من داخل الحزب على أن يعاد النظر في شكل الائتلاف بقرار مباشر من رئيس الدولة، والذي له صلاحيات مهمة في هذا الإطار رغم رمزية مهامه، وعدم تأثيره السياسي وفقا لأسس النظام الحاكم في إسرائيل، والتي حاول عدد من رؤساء الوزراء السابقين خاصة إسحق شامير وأيهودا أولمرت وإسحق رابين القفز عليه والمطالبة فعليا بكتابة دستور جديد للدولة، وهو ما فشلت فيه إسرائيل تباعا في ظل المسكوت عليه في الدولة، مثله مثل عدم تحديد قانون من هو اليهودي مثالا وتحديد المعني من قانون الهوية.
خامسا: إن أزمة نظام الحكم في إسرائيل كبيرة ومتسعة، وهي تمتد إلى بنية الأحزاب وبرامجها وغياب اليسار المؤثر، وحركات السلام والاتجاه إلى اليمنية المتطرفة، وهو ما يجري في العالم كله، وإسرائيل تطبيق جيد لهذا الأمر، مثلما جرى في الولايات المتحدة بوصول الرئيس ترامب ومؤخرا الحالة البرازيلية، إضافة لغياب القدرة على الحسم والتي لا تتوقف فقط على السياسة بل على الأمن والاستراتيجية، ولعل ما يجري في الجيش الإسرائيلي في الوقت الراهن دليل على هذا الأمر؛ حيث يجري في الوقت الراهن أكبر مراجعة لخطط إسرائيل العليا، والعمل على تحديث مقدرات الجيش الإسرائيلي، وتطوير منظومة عملياته، ونقل بعض المخصصات المالية المقدرة للتعليم والصحة إلى الجيش مباشرة، مما أثار العديد من الأزمات داخل الكنيست، والمطالبة بمراجعة مجمل سياسات الأمن والدفاع لدولة تقوم بـ6 مناورات رئيسية في العام، على رأسها مناورات تحول الاستراتيجية التي تجرى سنويا، وتشارك فيها جميع وحدات الجيش الإسرائيلي في مهامها الدفاعية والقتالية، والرسالة هنا أن إسرائيل تواجه أزمة الاستمرار في إدارة الأوضاع بنفس نهج الحقب السابقة، فلا هي قادرة على الدخول في استحقاقات كاملة، ولا هي قادرة على تقديم نفسها كدولة عضو في الإقليم سيتم قبولها بصورة فعلية حال التزامها بنصوص المبادرة العربية باعتباره مشروع السلام العربي الوحيد المطروح، والقابل للتفاوض المشترك بصرف النظر عن التحفظات الإسرائيلية، ومطالبها غير المباشرة بتعديل بعض بنوده.
وفي المقابل فإن استمرار إسرائيل في سياستها الراهنة داخليا من الشروع في تنفيذ قوانين سيئة السمعة، وعلى رأسها قانون القوميات سيؤدي لتداعيات خطيرة في المدى الطويل، وسيمس بالفعل هوية بعض مواطنيها ولو اسما وهم عرب إسرائيل 48، والذين سيظلون قنبلة موقوته في قلب إسرائيل حيث لا بديل حقيقي، كما أن اتباع مخططات الترانسفير والطرد للأسر المقدسية، واستئناف سياسة الاستيطان، وتنفيذ مخطط تهويد القدس والبدء في تنفيذ استراتيجية 2050 لن يفيد إسرائيل أبدا، بل سيجعلها دولة إرهابية غير مقبولة وسينزع عنها صفة الدولة المقبولة في التنظيم العالمي، ويحيلها بعد 70 عاما من قيامها لدولة مارقة منبوذة.
سادسا: إن هذه المعطيات التي تعيشها إسرائيل في الوقت الراهن تدفع للتأكيد بأن ما تشهده من تطورات ليس أزمة حكومة بل هي بالفعل ودون مغالاة أزمة دولة ومأزق نظام عاش على ثوابت ومعطيات معينة تتغير الآن بصورة كاملة، وعليه أن يواجهها داخليا وإقليميا ودوليا بدلا من اتباع سياسات انفرادية قد تذهب بالدولة إلى خيارات صفرية، وفي التسليم بأن الإنجازات الراهنة التي تشهدها إسرائيل في مجالات العلم والتكنولوجيا والتقدم الإلكتروني والسايبر والسيلكون لا تعني أنها قادرة على القفز على مسارات الفشل الحقيقي سياسيا واستراتيجيا، رغم كل هذه القوة العسكرية وتنمية إمكانياتها الأمنية بصورة لافتة.
إن أزمة إسرائيل ليس في بقاء حكومة أو رئيس وزراء أو إعادة ترتيب أولويات الائتلاف الحاكم، بل الأمر مرتبط بتغيير بوصلة التوجه والهدف الذي يمكن لإسرائيل العمل من خلاله بدلا من الدوران في حلقة فراغ، وبناء الجدران الأسمنتية والإلكترونية حول حدودها الحالية تجاه مصر والأردن وغزة ولبنان، والمؤكد ختاما أنها ستخرج من الأراضي المحتلة كما خرجت من غزة وجنوب لبنان وياميت في مصر، ولكن بأي تكلفة وأي عائد وحسابات سياسية واستراتيجية معينة؟ هذا هو السؤال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة