المشهد الفلسطيني الإسرائيلي لن يستقر ولن يهدأ ما دام الحق الفلسطيني ضائعا ولا يزال الاحتلال قائما في الأراضي العربية المحتلة.
لن تغير الضربات الإسرائيلية على قطاع غزة حالة التوازن الراهن بين إسرائيل والقطاع، ولن تكسر المعادلة الاستراتيجية الحالية والقائمة منذ نهايات حرب غزة الأخيرة، خاصة أن الجانب الإسرائيلي لا يريد المواجهة الشاملة مكتفيا بالضربات الخاطفة والمكثفة من آن لآخر طوال الأشهر الأخيرة>
إلا أن ما جرى مؤخرا في تطورات الداخل الفلسطيني دفع إسرائيل إلى الإقدام على سيناريو جس النبض لحركة حماس وباقي الفصائل الفلسطينية الأخرى، والتي دخلت المواجهة لاعتبارات استراتيجية وتكتيكية.. سيناريوهات جديدة في المشهد الفلسطيني الإسرائيلي.
التوصل إلى تهدئة سيكون بداية لمرحلة مؤقتة في ظل مخاوف إسرائيلية من تحول المشهد -وهو أمر سيحدث- من استراتيجي عسكري إلى سياسي دبلوماسي، في معركة ربما لا تدرك إسرائيل تبعاتها جيدا في ظل رهاناتها الفاشلة على الخيارات الانفرادية بدعم أمريكي غير مسبوق>
أولا: رغم استمرار حالة الانقسام الفلسطيني وعدم تمكين حكومة التوافق من أداء مهامها بالكامل إلا أن كافة الفصائل تعاملت مع المشهد الفلسطيني بكل مسؤولية، ولم يحدث حتى الآن أي تضارب حقيقي في المواقف أو التوجهات، وإن كانت حركة الجهاد الفلسطيني هي التي تصدرت المشهد إعلاميا، وهو أمر يشير إلى أن قيادات حماس دفعت الفصائل الفلسطينية للتعبير عن مواقفها أولا، ثم تقييم مسارات المشهد السياسي والاستراتيجي، وفي المحصلة ستخدم الموقف الفلسطيني العام.
وعلينا أن نتذكر أن صواريخ حركة الجهاد الفلسطيني في حرب غزة الأخيرة هي التي كسرت حاجز الردع مع الجانب الإسرائيلي ووصلت إلى قرية ديمونة وتل الربيع، ومن ثم فإن حركة الجهاد لديها قدرات كبيرة اختبرت خلال الساعات الأخيرة من الجانب الآخر جيدا، خاصة أن تسليح الحركة إيرانيا وتطوير منظومة الصواريخ التي تملكها يتم بخبرات إيرانية بالأساس، ومن ثم فإن إسرائيل تعاملت مع توجيه ضرباتها من منطلق اختبار كافة القوى الفلسطينية وإمكانياتها الحقيقية ميدانيا بعيدا عن سيل التقارير عن الإمكانيات والقدرات النظرية، ومدى آجال ومديات الصواريخ الفلسطينية التي تملكها حركتا حماس والجهاد، إضافة لمراقبة تسليح الفصائل الأخرى عن قرب.
ثانيا: إن تفاعل الرئاسة الفلسطينية في هذا التوقيت واضح لقطاعات الرأي العام الفلسطيني، خاصة مع التحركات النشطة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، واستمرار وتكرار الضربات الإسرائيلية على القطاع سيعني بالأساس تأكيد المطلب الفلسطيني الحالي بطلب وضع الأراضي العربية تحت الحماية الدولية أو الائتمان الدولي، وهو أمر مهم في الوقت الراهن رغم الصعوبات الإجرائية والجوهرية التي سيمارسها الجانب الأمريكي في مجلس الأمن، ولكن سيظل المطلب الفلسطيني مهما، وسيبنى عليه لاحقا في المحكمة الجنائية الدولية -التي ستباشر خلال الفترة المقبلة- التحقيق في الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة بأكملها -بناء على المطلب الفلسطيني- بتفعيل عضوية إسرائيل في النظام الأساسي للمحكمة.
ومن ثم فإن المخطط الفلسطيني -وهو ما تعلمه إسرائيل جيدا- يستهدف نزع شرعية إسرائيل في المحافل الدولية، وجر قيادات سياسية وعسكرية بالاسم للعدالة الدولية، ولو من خلال خطوات ودلالات شكلية، وتتحول المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية من إطارها العسكري في القطاع إلى إطار أوسع دوليا، وعبر المؤسسات الدولية ممثة في الأمم المتحدة.
ثالثا: إن الإعلان الإسرائيلي عن إجراءات منفردة ومن جانب واحد، وسواء استمرت الضربات الإسرائيلية على القطاع أو توقفت وضبطت لاعتبارات تتعلق بمضمون المواجهة الحالية لن تكون في صالح إسرائيل، خاصة أن إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي -وهو ليس رجلا عسكريا- عن استئناف سياسة الاغتيالات في القطاع قد يؤدي إلى انفتاح المشهد على مصراعيه لخيارات قد تبدو صفرية في المدى المنظور، خاصة أن كافة الفصائل الفلسطينية متفقة على تبني استراتيجية الردع في المقابل.
وقد حملت بيانات المواجهة من الجانب الفلسطيني في بدايات توجيه الضربات الإسرائيلية والتعامل معها تأكيدا على هذا، خاصة أن اصطياد القيادات الميدانية/السياسية في إطار خطة أجهزة المعلومات الإسرائيلية لن يكون سهلا وميسورا، فقد تعلمت القيادات الميدانية الدرس منذ اغتيال المهندس أحمد الجعبري، ولهذا اختفت القيادات الميدانية الرئيسية في الفصائل مع بدايات الضربات الإسرائيلية.
وفي إطار من السواتر الأمنية والاستراتيجية المتعارف عليها مع كل الأطراف، خاصة أن مخطط كسر المشهد الراهن لن يكون سهلا، وستكون خسائره كبيرة، خاصة أن قادة الحرب في هيئة الأركان وقادة منطقة الجنوب في إسرائيل لا يريدون الحرب الشاملة باعتبار أنها مكلفة ولن تتحملها إسرائيل، وأن الهدف الذي يجب العمل عليه مجموعة أهداف استراتيجية، واختبار تسليح الفصائل على المواجهة، وعدم الدخول في سيناريو كامل للحرب في القطاع، ولهذا تم توبيخ وزير الدفاع الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان على سلسلة تصريحاته التي اعتبروها عبثية، وأنها غير ذات قيمة حقيقية، وهو ما يشير إلى تجدد الصراع بين المدنيين والعسكريين في إسرائيل، مع التأكيد على أن ليبرمان ليس عسكريا، ولا يعرف تكوين أو مهام اللواء من الكتيبة أو التشكيل، ومن ثم فعليه الصمت تاركا المهمة العسكرية لرئيس الأركان إيزنكوت ليقرر مصير المواجهات الحالية والمتوقعة والتعامل مع المشهد العسكري بأكمله في قطاع غزة والضفة الغربية.
رابعا: إن توجيه الضربات الإسرائيلية على قطاع غزة ورد فعل الفصائل الفلسطينية بهذه الصورة غير المسبوقة ليس كسرا كاملا لحالة التوازن الاستراتيجي الراهن، أو بحثا عن معادلة جديدة لترسيم المشهد السياسي والاستراتيجي فقط، وإنما هو أيضا مرتبط بما يجري في المشهد الأمريكي بالأساس، ومخطط الإدارة الأمريكية لفرض حل نهائي على الجانب الفلسطيني في الفترة المقبلة وهو ما سيرفض فلسطينيا بالكامل، سواء طرح هذا التصور الأمريكي في شكل صفقة أو تسوية ببنود محددة كما أعلن الجانب الأمريكي مرارا، وتم تأجيل طرحه لاعتبارات أمنية واستراتيجية تتعلق بسياسة رد الفعل المتوقعة فلسطينيا، وتزامنا مع توجهات جديدة للفصائل الفلسطينية بأكملها في القطاع، وإعادة فتح ملف الحصار المفروض على القطاع بصورة كاملة، وما محاولة كسر الحصار البحري وتعامل إسرائيل مع المحاولة بصورة متوقعة سوى دليل على ما يخطط له جيدا فلسطينيا، ويحظى بدعم بعض الدوائر الأوروبية المتعاطفة مع القطاع المحاصر منذ سنوات طويلة، حيث ترفض إسرائيل اتخاذ إجراءات لتخفيف الحصار، أو حتى العمل على إعادة تأهيل القطاع اقتصاديا بما يخفف من الإجراءات المفروضة تخوفا من احتمالات انفجار الموقف في القطاع أولا وفي الضفة الغربية ثانيا.
ومن ثم فإن ما يجري في المشهد الراهن على المستويين الفلسطيني والإسرائيلي يستهدف تغييرا مرحليا للموقف داخليا، وتطوير التفاعل على المستوى السياسي والاستراتيجي مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية سياسية بالأساس وليست إنسانية كما يتصور البعض.
خامسا: ليست القضية إذن في التوصل لهدنة جديدة، أو بناء تفاهمات استراتيجية لتثبيت الوضع السابق، خاصة أن إسرائيل ما زال لديها جملة من الأهداف السياسية والاستراتيجية تريد اختبارها وحسمها بالفعل، بصرف النظر عن توقف الضربات أو استمرارها، وهو ما تدركه الفصائل الفلسطينية على مختلف توجهاتها وتتفهم أبعاده.
ومن ثم فإن التوصل إلى تهدئة سيكون بداية لمرحلة مؤقتة في ظل مخاوف إسرائيلية من تحول المشهد -وهو أمر سيحدث- من استراتيجي عسكري إلى سياسي دبلوماسي في معركة ربما لا تدرك إسرائيل تبعاتها جيدا في ظل رهاناتها الفاشلة على الخيارات الانفرادية بدعم أمريكي غير مسبوق سيكون مكلفا للجانبين في الفترة المقبلة، خاصة أن انفجار الموقف في الشرق الأوسط لن يخدم السياسة الأمريكية الحالية، التي تتصور أنها نجحت في تطويع الأطراف المختلفة، وأن الأمور مضت لصالح إسرائيل وقضي الأمر، وهو تصور منقوص وغير صحيح، وسيؤدي إلى افتقاد كامل للمصداقية الأمريكية ليس في الشرق الأوسط فقط، بل في دوائر نفوذها وتأثيرها في مواقع أخرى (آسيا مثالا)، خاصة مع التخطيط الفلسطيني لاستمرار الهجوم الدبلوماسي والقضائي مما سيضع الجانبين الإسرائيلي ومن ورائه الأمريكي في مأزق حقيقي، خاصة أن استتباب الأوضاع في الأراضي المحتلة لن يكون سهلا، بل سينفتح على سيناريوهات متعددة في ظل تكلفة عالية لن تستطيع إسرائيل في وضعها الحالي أن تدفعه حتى مع الدعم الأمريكي المتواصل، والذي يتحرك في مسار واحد ضيق ودون رؤية متكاملة لتفكيك عناصر الأزمة الراهنة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
سادسا: قد يكون من المتوقع أن تتدخل عوامل جيدة للتعامل مع المشهد الراهن فلسطينيا، خاصة أن القوى الرابحة من المواجهة ليست فقط فصائل فلسطينية ستعود إلى صدارة المشهد الفلسطيني، ومحاولتها توظيف واستثمار ما يجري وبناء شعبية جديدة، وإنما أيضا السلطة الفلسطينية، التي يجب عليها عدم تأجيل الخطوات المرتب لها جيدا منذ قرار الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل والإقدام على تنفيذ قرار نقل السفارة الأمريكية، وأي تأجيل مصحوب برسائل سياسية أمريكية أو أوروبية لن يخدم الجانب الفلسطيني ولا القيادة الفلسطينية ذاتها، التي تواجه بالفعل حربا حقيقية من الإدارة الأمريكية، والتي تسعى لمحاصرة خياراتها السياسية ودفعها إلى دائرة ضيقة.
وهو ما يجب الانتباه إليه بصورة جيدة، خاصة أن أمام الفلسطينيين معركة دبلوماسية حقيقية في الفترة المقبلة لا تقل أهمية عن المواجهات العسكرية في الرد على الضربات الإسرائيلية في الوقت الراهن، ومن ثم فإن المشهد الفلسطيني الإسرائيلي لن يستقر ولن يهدأ ما دام الحق الفلسطيني ضائعا ولا يزال الاحتلال قائما في الأراضي العربية المحتلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة