إن وسائل التنفيس عن الغضب هي العدو الأكبر لأية محاولة عقلانية لحل أية أزمة أو التعامل معها،
يُعاني العالمان العربي والإسلامي من مشكلة مزمنة في محدودية خياراته في طريقة رد الفعل على أية أزمة سياسية أو ثقافية تقع مع أي طرف غربي دولة كان أو مؤسسة.
فردود الفعل التقليدية والمعتادة والمتكررة تنحصر دائماً، رسمياً بخطابات التنديد والاستنكار، وشعبياً بالتظاهر الميّال للعنف، والمطالبة بقطع العلاقات والمقاطعة الاقتصادية. إذ اعتدنا منذ ستينيات القرن الماضي على أن يشغل الشارع والساحة السياسية؛ إما اليسار أو تيارات الإسلام السياسي، وكلاهما متخصص في لغة التظاهر الخشن، ومطالبات قطع العلاقات الدبلوماسية، ولعل هذه الوسائل الاحتجاجية كانت ذات تأثير سابقاً ولكن ليس اليوم، حيث تبدلت ظروف السياسة وأحوالها بل وموازينها ونظمها بعد نصف قرن.
لم تعد المظاهرات اليوم أداة سياسة فاعلة أو مؤثرة، إلا على أرض الحدث فقط (المظاهرات في فلسطين المحتلة وحدها ذات التأثير المباشر)، ففي أزمة القدس الحالية التي أعلنها الرئيس الأميركي منفرداً عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، لن تؤثر مظاهرات الملايين من العرب والمسلمين عبر العالم في قرار سيد البيت الأبيض، الذي وبعد أن رأى تلك المظاهرات قرر، ويا لها من سخرية، أن يوفد نائبه مايك بينس للتخفيف من تداعيات هذا القرار في دول الشرق الأوسط، علما بأن بينس متحمس أكثر من ترامب لهذا القرار بسبب خلفيته الدينية التابعة للكنيسة الايفانجيليكية، وقد وضع على رأس شروط قبوله خوض المعركة الانتخابية إلى جانب الرئيس كنائب له، تعهد ترامب تنفيذ قرار نقل السفار الأميركية إلى القدس.
ليست هذه دعوة للتخلي تماماً عن التظاهر الشعبي احتجاجاً على قرار ترامب، وإنما لترك ذلك التنافس الفارغ بعدد المظاهرات والمتظاهرين وطول أمدها وشدة عنفها، وكأن هذه العوامل لها وزن في التأثير على قرار الغرب.
باتت دول العالم تعتمد على بعضها البعض بشبكات مصالح قوية، يصعب على المظاهرات والعواطف زعزعتها، فكل هذه المظاهرات -رغم كونها رد فعل مشروع ومحقّ، لكن غير مؤثر برأيي- لن تدفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لقطع علاقاته مع إسرائيل؛ وهو يحتاج معلوماتها الاستخباراتية عن أكراد حزب العمال الكردستاني، وتكنولوجياتها العسكرية.
ولن تدفع الأردن أو مصر إلى الغاء معاهدات السلام مع تل أبيب، والإرهاب يحيط بهما من كل جانب ويتهدد السلم الأهلي فيهما، واقتصادهما بحاجة إلى الدعم الأميركي للحفاظ على توازنه.
ولن تتخلى المملكة العربية السعودية عن عقود وصفقات السلاح الأميركي وهي ترى تربص إيران بها من كل جانب وصواريخ الحوثي تنطلق صوب أراضيها، والحشد الشعبي وحزب الله يتحينون الفرصة والأمر الإيراني للهجوم.
ولن تغلق قطر قاعدة العديد الأميركية على أرضها أو مكتب الاتصال الإسرائيلي في فندق الشيراتون، لأنهما الحامي لها والغطاء الذي يوفر لها استمرار سياسة زرع الفتن ودعم التيارات المتطرفة على أراضي جيرانها ومحاولة الإيقاع بينهم.
كما أن طهران وتوابعها في المنطقة من حزب الله والحشد الشعبي الذي زار قائده قيس الخزعلي قبل يومين الحدود اللبنانية الإسرائيلية بدعوة من حزب الله، لن يفعلوا شيئاً ضد إسرائيل أو أميركا، فهذا ليس وارداً على أجندتهم لا اليوم ولا أمس. فطهران والدوحة تمارسان – كما في كل أزمة- فن خلط الأوراق، وشغل الشارع العربي عن أزمته الحقيقية، من خلال ضربه ببعضه البعض وتقسيمه، وتوجيه غضبه إلى حكوماته وقياداته، من خلال نشر الشائعات والتحليلات المشوهة للحقيقة، وأساليب رد الفعل التقليدية التي أشرت إليها في بداية المقال.
فقبل احتلال العراق، قام العرب بمبادرة سلام شجاعة عام 2002 هي مبادرة الملك - ولي العهد حينها -عبدالله بن عبدالعزيز، كان لدى العرب محور القرار العربي، ممثلاً بالسعودية ومصر وسوريا، يتعامل مع قضايا العالم العربي بتفاهم وتنسيق. لكن بعد احتلال العراق واغتيال رفيق الحريري، فقد هذا المثلث ضلعه السوري المتهم بعملية الاغتيال ودعم إيران للسيطرة على العراق، ومن يومها انشغل العرب عن قضيتهم الأولى فلسطين، لصالح مواجهة تهديدات النفوذ الإيراني المتمدد، وحركات الإسلام السياسي المتطرفة التي سعت للوصول إلى الحكم بقوة السلاح، على موجة ما سمي بالربيع العربي وما نتج عنه من إرهاب وتطرف. ووراء كلا هذين الخطرين الجديدين تجد بصمات طهران والدوحة واضحة.
كما أن المزايدات السياسية واللفظية بين المسؤولين العرب ما زالت حاضرة من تراثنا السياسي البالي، فكأنما كنت أشاهد طارق عزيز وأنا استمع لكلمة وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل في جامعة الدول العربية، وهو يطالب الدول العربية بفرض عقوبات اقتصادية على أميركا، كما ذكرني طلب وزير خارجية فلسطين رياض المالكي بتأليب دول مجلس الأمن ضد أميركا لاستصدار قرار ضدها لا تستطيع استخدام حق الفيتو ضده، بخطابات معمر القذافي.
ففي عالم عربي معظم عملات دوله مرتبطة بالدولار، ما زال هناك من يطالب بالمقاطعة بل وفرض العقوبات على أميركا، ومثال الليرة التركية قائم حاضر أمام ناظرينا، وهي تهوي بقيمتها أمام الدولار بسبب التوتر السياسي الحاصل بين البلدين مما أربك جميع مؤشرات الاقتصاد التركي.
إن غياب الأحزاب والتيارات الليبرالية واليمينية المعتدلة عن ساحة العمل السياسي في عالمنا العربي، جعلنا حبيسين لهذه التقاليد السياسية القديمة، وهذا التفكير المحدود في التعامل مع الأزمات، وعلى الحكومات مسؤولية تحرير وتشجيع العمل السياسي النزيه وخصوصاً أمام الليبراليين واليمينيين، حتى لا تُترك الساحات للحركات الإسلامية واليسارية وأفكارها.
ليست هذه دعوة للتخلي تماماً عن التظاهر الشعبي احتجاجاً على قرار ترامب، وإنما لترك ذلك التنافس الفارغ بعدد المظاهرات والمتظاهرين وطول أمدها وشدة عنفها، وكأن هذه العوامل لها وزن في التأثير على قرار الغرب، ودمج التظاهر السلمي بطرح أفكار سياسية تركز على المستقبل وخطط العمل بدلاً من التلاعن وتقاذف الاتهامات وتحميل المسؤوليات، لأننا نفعل ذلك منذ عقود والنتيجة واضحة أمامنا.
هل يمكن أن تتحرك اللوبيات العربية في أميركا بالتعاون مع المنظمات الليبرالية الصديقة، من أجل البحث عن ثغرة قانونية مثلا تفسح المجال لرفع قضية في المحاكم الأميركية ضد قرار ترامب؛ بحجة أنه يخالف القانون الدولي وقد يتسبب في تهديد أمن الأميركيين في الشرق الأوسط مثلا؟، هل يمكن البحث بجدية في تداعيات التخلص من مسار أوسلو، وحل السلطة الفلسطينية، واعتبار فلسطين دولة خاضعة للاحتلال وتوكيل الأمم المتحدة مسؤوليتها في متابعة شؤون الفلسطينيين على اعتبارهم شعباً تحت الاحتلال المباشر؟.
وهل يمكن للعرب أن يؤمّنوا الدعم المالي والسياسي للقيادة الفلسطينية في مثل هذه الحالة؟ بدلاً من تكرار عبارة القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين؟، هل يمكن أن يتم العمل من أجل الاستفادة من العنصر المسيحي القوي والغائب في معركة القدس ضمن الأطروحات الرسمية العربية، ولدينا بيان قوي اللهجة وغير مسبوق ربما صدر عن بابا الفاتيكان كأول وأسرع رد فعل على قرار ترامب؟، هل يمكن إنشاء شبكة أمان مالي شفافة تعتمد على ضرائب مالية على الفلسطينيين في المهجر وتبرعات شخصية ومؤسساتية عربية من أجل دعم انتفاضة فلسطينية طويلة؟.
كل ما سبق جزء من اقتراحات طرحها فلسطينيون على وسائل التواصل الاجتماعي خلال هذه الأزمة، ولم يجد أي منها تناولاً جدياً من قبل الأوساط الرسمية أو الإعلامية أو مؤسسات المجتمع المدني، أو حتى من قبل المتظاهرين الغاضبين في شوارع العالم العربي.
إن وسائل التنفيس عن الغضب هي العدو الأكبر لأية محاولة عقلانية لحل أية أزمة أو التعامل معها، فرجاء اغضب كما شئت، لكن لا تعتبر شدة الغضب والتعبير عنه معياراً لحل الأزمة، اغضب ولكن فكّر أيضا، واسمح لي أن أفكّر معك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة