لم يأخذ ترامب بالاعتبار أيضاً الشراكة الجديدة التي نجح في تأسيسها مع العالم الإسلامي عقب قمة الرياض،
ليس هناك شك في أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل قد أضاف تعقيداً إلى الأزمة المتفاقمة والمُعقّدة في منطقة الشرق الأوسط، والآن وقد حدث ما حدث، وبدأت مرحلة استيعاب التداعيات، فليس أمام العرب والمسلمين من خيارات سوى البحث في البدائل والخيارات الاستراتيجية المتاحة للتعاطي مع هذه "الأزمة".
في مقدمة هذه البدائل تأتي محاولة الضغط على إدارة ترامب من أجل التراجع عن قرارها، وهذا أمر يصعب حدوثه أو حتى توقعه في ضوء توجهات ومؤشرات أداء الرئيس ترامب منذ توليه منصبه، ولكن لأننا بصدد قواعد لعبة سياسية جديدة في المنطقة، فإن المطالبة بالتراجع عن القرار قد تستهدف في جوهرها الحد من آثاره أو الدفع باتجاه تقديم "العلاج" الأمريكي لهذا الخطأ الاستراتيجي.
كيف يُعقَل أن يمنح البيت الأبيض القدس هدية مجانية لإيران وأذرعها الأيديولوجية المسلحة لاستخدامها في المزايدة والتحريض، في وقت تعلن فيه واشنطن عزمها الحد من النفوذ الإيراني في سوريا؟ وكيف يمكن أن تقدم جرعة أوكسجين لتنظيمات التطرف والإرهاب التي تلفظ أنفاسها الأخيرة؟.
البيت الأبيض يقول إن الرئيس ترامب كان على "إدراك تام" للتداعيات المحتملة لإعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولكنه، أي البيت الأبيض، يذكّر الجميع بضرورة إعلاء صوت الاعتدال والتسامح على أصوات المحرّضين على الكراهية، ولكنه لم يذكر كيف يمكن أن يحدث ذلك بعد أن أحرج ترامب حلفاءه وقدّم هدية مجانية لأعدائه وأعدائهم!!
هل بات الجانب الأمريكي في "حالة إنكار" لتوابع قرار الرئيس ترامب؟ قد يبدو ذلك بالفعل لأن هناك حديثاً متكرراً عن الالتزام بلعب دور "الوسيط النزيه" في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والأهم من ذلك أن المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة تقول إن واشنطن لا تزال تتمتع بالمصداقية كوسيط لدى الإسرائيليين والفلسطينيين، كيف ذلك لا ندري وأبجديات الوساطة النزيهة تقضي بضرورة بقاء الوسيط على مسافة واحدة من طرفي الصراع!
يشير التحليل الموضوعي لسياسات الرئيس ترامب إلى أنه لا يستهدف العرب والمسلمين بشكل خاص، فالعالم كله يتابع التصعيد المتفاقم في العلاقات الأمريكية ـ الكورية الشمالية، وكذلك موجة الانسحابات الأمريكية التي لا تتوقف من المعاهدات والاتفاقات الدولية، وآخرها إعلان البعثة الأميركية في الأمم المتحدة الأسبوع الماضي إنهاء مشاركة الولايات المتحدة في الميثاق العالمي حول الهجرة، كما ألمح الرئيس ترامب منذ أيام قلائل إلى احتمال سحب نحو 40 ألف جندي أمريكي يتمركزون في ألمانيا، ما ينذر بأزمة عميقة مع الشركاء الأطلسيين، وهو من كان قد وصف الحلف الأطلسي ذاته بأنه "عفا عليه الزمن"!
ترامب يشير في تبرير هذه المواقف والسياسات إلى أنها ترجمة لشعاره الأثير "أمريكا أولاً"، ولكن قرار الاعتراف بالقدس تحديداً لا علاقة له بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية في الشرق الأوسط والعالم، بدليل أن كل التصريحات الصادرة عن البيت الأبيض في تفسير دوافع القرار لم تفلح في إقناع أحد، حتى داخل الولايات المتحدة نفسها، بل نسفها تماماً تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" استقصت فيه رأي سفراء الولايات المتحدة السابقين لدى إسرائيل، حيث اعترض تسعة سفراء على قرار الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعتبروه خطأ استراتيجياً فادحاً، ولم يدعم موقفه سوى اثنين فقط من السفراء!
تساؤلات عديدة يثيرها القرار المتضارب تماماً ـ لجهة التوقيت على الأقل ـ مع المصالح الأمريكية، إذ كيف يُعقل أن يمنح البيت الأبيض القدس هدية مجانية لإيران وأذرعها الأيديولوجية المسلحة لاستخدامها في المزايدة والتحريض، في وقت تعلن فيه واشنطن عزمها الحد من النفوذ الإيراني في سوريا؟ وكيف يمكن أن تقدم جرعة أوكسجين لتنظيمات التطرف والإرهاب التي تلفظ أنفاسها الأخيرة عسكرياً في دول عدة بالمنطقة؟!
بصراحة هذا القرار غابت عنه العقلانية السياسية، وانتحى جانباً لمصلحة شعار إسرائيل أولاً، وهذا التوجه لا يعبّر عن معطى استراتيجي جديد في السياسة الخارجية الأمريكية مع إسرائيل، فهما شريكان استراتيجيان بالسليقة، وهذأ أمر مفروغ منه، ولكن كانت كفّة الميزان تميل دائما لمصلحة "أمريكا أولاً" حيث كان هذا الدافع وراء تأجيل اتخاذ قرار بشأن وضعية القدس من قبل ثلاث إدارات سابقة في عهد أوباما وكلينتون وجورج بوش الابن.
لم يأخذ ترامب بالاعتبار أيضاً الشراكة الجديدة التي نجح في تأسيسها مع العالم الإسلامي عقب قمة الرياض، عندما تحدث عن ضرورة التعاون في الحرب ضد الإرهاب، ولكنه غامر باستحضار شعارات العداء للولايات المتحدة من غياهب الماضي، ودفع بقرار القدس ليتم توظيفه سياسياً وعاطفياً من جانب تيارات وتنظيمات فقدت بالفعل أي أرضية لها في الشارع العربي، فهل يُعقل أن تقدم إدارة ترامب التي تضع مكافحة الإرهاب في صدارة أولوياتها "طوق نجاة" للجماعات الإرهابية والتنظيمات المتطرفة في المنطقة؟!
واقعياً وقانونياً، فإن القرار الأمريكي لا يبت نهائياً في مصير القدس، ولاسيما في ظل حالة التوحد الدولي التي ظهرت في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن ضد تحديد وضعية المدينة المقدسة لدى أتباع الديانات الثلاث، حيث بدا مؤكداً أن القرار الأمريكي بمنزلة وضع العربة قبل الحصان في استباق لا معقول للعملية التفاوضية المفترضة في الشرق الأوسط، فالاعتراف الأمريكي يدعم موقف إسرائيل وربما يدفعها للتشدد بشأن القدس، ولكن الفترة المقبلة ستكون حاسمة في تحديد الموقف الإسرائيلي من خلال ردات فعل عواصم العالم؛ وكيفية تعاطيها مع التطور الجديد، بمعنى هل تنجح إسرائيل في استقطاب مواقف دول أخرى للاصطفاف إلى جانب الاعتراف الأمريكي، أم ستفشل في ذلك ويبقى القرار حالة معزولة ويصبح للمجتمع الدولي والأمم المتحدة دور في عملية السلام خلال المرحلة المقبلة؟.
كل السيناريوهات واردة ومطروحة، ولكنها مرهونة بتحرك الدبلوماسية الفلسطينية والعربية بسرعة وفاعلية على الصعيد السياسي من الآن، وأمامنا فقط الفترة التي ستستغرقها إجراءات نقل السفارة الأمريكية للقدس، والتي تُقدر بنحو عامين، إذ إن النقل الفعلي للسفارة سينطوي على ماهو أخطر من تبعات وتداعيات.
يقول الجانب الأمريكي أن هدف القرار هو دفع عملية السلام إلى الإمام، وهذه بحد ذاتها لغز يحتاج إلى تفسير في نظر البعض، ولكن هذا الكلام لا يجب أن يؤخذ على مجمل الهزل، فباعتقادي أن قرار الرئيس ترامب هو قمة جبل الجليد القادم، بل ربما جاء ليمهد لما هو آت، وقد يستهدف إحداث أكبر قدر من الضغوط التي تستهدف انتزاع أكبر قدر من التنازلات في عملية تفاوضية محتملة خلال المدى المنظور، وهذا مايجب الاستعداد له جيداً بعيداً عن المهاترات الإعلامية والمزايدات الكلامية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة