في نزاع أوكرانيا-روسيا يختلط البُعد السياسي بالعسكري بالثقافي بالاقتصادي، لتعدد الأهداف والدوافع المحرّضة لكل طرف، ولكثرة القوى المنخرطة فيه، بشكل مباشر أو من وراء كواليس.
ظلت الولايات المتحدة الأمريكية منذ تفجُّر النزاع تُوفر متطلباتِه السياسية والعسكرية من أجل استمراره، سعيًا لتحقيق أهدافها الاستراتيجية ضد روسيا، ودفعت بالأوروبيين إلى السير في ركْبها، حتى ظنَّ البعض أن الانسجام بين الحليفَيْن دائم ولا تعتريه مشكلات رغم التناقضات بينهما.
وبالتالي اعتقد البعض أيضا أنه من الطبيعي أن يكون الانسجام تامًّا بين أركان الإدارة الأمريكية ذاتها في هذا التوجه، خصوصًا لجهة استمرار النزاع وتغذيته بما يلزم والعمل على تعطيل أي محاولة تفاوضية بين موسكو وكييف، لكن يبدو أن بعض التحولات الميدانية، التي شهدتها -وتشهدها- ساحات النزاع بين روسيا وأكرانيا، وآخرها قرار الانسحاب الروسي من خيرسون، فجّرت مكنوناتِ أحد أبرز القادة العسكريين الأمريكيين، وهو الجنرال "مارك ميلي"، رئيس هيئة الأركان المشتركة، حيث قال في مقابلة على قناة "سي إن بي سي":
"لقد رأينا قتال الجيش الأوكراني للجيش الروسي يصل إلى طريق مسدود، والآن ما يخبئه المستقبل غير معروف، لكننا نعتقد أن هناك بعض الاحتمالات لبعض الحلول الدبلوماسية".
ويضيف الجنرال "ميلي" أن الأوكرانيين "حققوا قدر ما يمكن أن يتوقعوه بشكل معقول في ساحة المعركة قبل حلول فصل الشتاء، لذا ينبغي عليهم محاولة تعزيز مكاسبهم على طاولة المفاوضات".
من الواضح أن تصريحات رئيس هيئة الأركان الأمريكية تُبطن عددًا من الأغراض، وتعكس جانبًا من المُناخ السائد داخل الإدارة الأمريكية حول النزاع.
من حيث الأغراض، فهي تنطوي على رسائل متعددة تجاه جميع الأطراف، وفي المقدمة الروس والأوكرانيون، إذ توحي لكييف بضرورة استثمار ما تحقق لها حتى الآن في سياق التفاوض، وتقول لموسكو إن فرص الحلول الدبلوماسية ليست معدومة.
ثم إلى الأوروبيين، بعد أن تسلَّل الضجر إلى بعضهم جراء الضغوط التي ولّدها النزاع ويولّدها في حال استمراره، بأن الحرب ليست المسار الوحيد لإنهاء النزاع.
على أن الأهم في ما أطلقه الجنرال "ميلي" هو ظهور تعارض مواقف قادة عسكريين كبار مع نهج قادة سياسيين ودبلوماسيين بالإدارة الديمقراطية للعلن لأول مرة حيال النزاع الروسي الأوكراني، حيث ثابر سياسيو البيت الأبيض لتجاهل طروحات التفاوض بين موسكو وكييف، وأبدوا في كثير من الأحيان مواقف غير مرحِّبة بها، رغم محاولاتهم الإيحاء بأنهم لا يمارسون ضغوطًا على الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، وإدارته، بشأن خيارات التفاوض مع الكرملين.
هل يجوز التكهن بأن قرار الانسحاب من خيرسون رسالة روسية التقطها العسكريون الأمريكيون ووضعوها في سياق التحفيز والتنبيه إلى بروز فرصة ملائمة للجميع كي يجلسوا إلى طاولة التفاوض بطريقة ما؟
يدرك المختصون العسكريون والاستراتيجيون أهمية "خيرسون" بالنسبة للروس عسكريا ومعنويا.
على الصعيد العسكري شكَّلت مدينة خيرسون هدفًا مباشرًا للقوات الروسية منذ بداية الحرب، كونها تشكِّل حجر الرَّحَى في مروحة الإمداد للمناطق الروسية في شرق وجنوب أوكرانيا، وصولا إلى جزيرة القرم.. وقد تمكّن الجيش الروسي من استثمارها في عملية الإمداد والاتصال الجغرافي بين تلك المناطق بشكل فعال، وهي من المناطق التي انضمت إلى روسيا مع عدد من الأقاليم مؤخرا.
أما على الصعيد المعنوي، فإن قرار الانسحاب الروسي من المدينة أعطى الانطباع بأن ثمة صعوبات ميدانية ولوجستية تواجه الجيش الروسي في ساحة المعارك هناك.
فالأهمية الاستراتيجية لهذه المدينة في حسابات الطرفين تجلَّت في مواقف كل منهما دون إغفال حقيقة ما يحدث وإمكانية البناء عليه، فالجانب الروسي يقول: "ننسحب أحيانا لنتقدم دائما".. في حين يقول وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا: "أدركُ أن الجميع يريدون أن تنتهي هذه الحرب في أسرع وقت ممكن، ونحن بالتأكيد مَن يريد ذلك أكثر من أي طرف آخر".
يلخِّص النزاع الروسي الأوكراني في جميع مساراته وتعقيداته مشهد الصراع الذي يحكم عَلاقات القوى العظمى على مر التاريخ منذ الأزل، فلا تكاد تهدأ جبهة حتى تشتعل أخرى.. وتتنوع الدوافع وتتباين الأساليب ويظل محورها يدور حول نزعة طرف من أجل إخضاع آخر، ويكون اللجوء إلى الحروب آخر الملاذات بعد أن تُستنفد أسلحة الصراع الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية المتشعبة.
ليس بعيدا أن مُراوحة النزاع القائم، وجمود الجبهات، وهيمنة السجال الميداني، من شأنه استنزاف الجميع دون جدوى لأحد، وقد يدفع طرفا من الأطراف إلى خِيارات كارثية، وهو مايعرفه السياسيون قبل غيرهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة