حاولتُ الاستفسار عن صِلة بالخميني، قبل الثَّورة، ممَن عايش، مِن الإسلاميين، تلك الفترة بالنَّجف، وكان جواب الجميع لا توجد.
لم يكن آية الله الخميني (ت1989) معروفاً لدى العراقيين، خارج النَّجف، قبل ظهور نائب رئيس مجلس قيادة الثَّورة آنذاك في مؤتمر صحفي (أكتوبر 1978) ليقول: «إذا خلَّونا خميني انخلَّيلهم ستطعش خميني»! أي نضع لهم ستة عشر خمينياً، والعراقيون عادةً يستخدمون هذا العدد تعبيراً عن الكثرة بالسلب لا بالإيجاب. لا تزال العبارة ترن في الآذان، بعد ما آل الأمر إلى الخميني حاكم مطلق لإيران، ويطيعه الإسلام السِّياسي الشِّيعي كإمام وملهم، ويُفاخر به الإسلام السِّياسي السُّنّي، على أن تحقيق حاكميتهم بالمنطقة بات قاب قوسين أو أدنى. مع أن الإسلام السياسي، السُّني والشِّيعي، لم يكن قبل الثَّورة يعرف الخميني، ولا الأخير سائل عن الأحزاب الدِّينية، لكن ما أن اعتلى سدة الحُكم، إلا وظهر الولاء المقدس له، لا يعبرون عنه إلا بالإمام، والقائد، فإن ذكروا «القائد» أو «الإمام» فلا يعنون سوى الخميني. مَن ذهب، مِن الإسلاميين، مباركاً ومعظماً كالإخوان المسلمين، الذين استنفروا فروعهم كافة لتأييده، ومَن ذهب عارضاً تنظيمه للقتال تحت لوائه، مثلما فعل حزب «الدَّعوة الإسلامية» وشُكل له «معسكر الصَّدر» (1980)، والمنتمون لهذا المعسكر (بعد 2003) منحوا رُتباً عالية للخدمة والتَّقاعد.
الإسلام السياسي، السُّني والشِّيعي، لم يكن قبل الثَّورة يعرف الخميني، ولا الأخير سائل عن الأحزاب الدِّينية، لكن ما أن اعتلى سدة الحُكم، إلا وظهر الولاء المقدس له، لا يعبرون عنه إلا بالإمام، والقائد، فإن ذكروا «القائد» أو «الإمام» فلا يعنون سوى الخميني.
حاولتُ الاستفسار عن صِلة بالخميني، قبل الثَّورة، ممَن عايش، مِن الإسلاميين، تلك الفترة بالنَّجف، وكان فاعلاً في «الدَّعوة»، مِن رجال الدِّين والأفندية، منازلهم على بُعد خطوات مِن منزله، بعد وصوله إلى النَّجف حتى مغادرته، وكان جواب الجميع لا توجد أي صِلة ومعرفة، لا مع الإسلاميين الشِّيعة ولا السُّنَّة.
ذَكر لي أحد القريبين مِن محمد باقر الصَّدر (أعدم1980)، وزميله منذ كان عمره أربعة عشر عاماً، أنه عندما كان يُذكر اسم الخميني، قبل الثَّورة، في مجلس الصَّدر، يتعمد البعض ويشير إلى محمد كاظم الحائري (أحد تلاميذ الصَّدر وأصبح ولي فقيه حزب الدَّعوة في الثمانينيات) بأنه أعلم مِنه، وهذا أمر كان معروفاً بين تلاميذ الصَّدر وبينهم محمود هاشمي شاهرودي، الذي تسلم منصب رئيس القضاء الإيراني، وعضو تشخيص مصلحة النِّظام، فيما بعد.
يصعب تصديق مثل هذه المعلومة مِن قِبل الإسلاميين اليوم، لكن الرَّجل الذي نقلها كان قد عاشها. قد لا تُصدق، فالحائري نفسه تبنى بعد الثَّورة «ولاية الفقيه»، وأصبح يشير إلى الخميني بالقائد، وهو الآن يعتبر علي خامنئي الولي الفقيه المطلق، وبعد (2003) افتتح داخل العراق تسعة مكاتب (النَّجف، بغداد: مكتب شرعي ومكتب إعلامي، الكاظمية، كربلاء، البصرة، ميسان، الشَّطرة، ذي قار)، وكل مكتب له مقر خاص، بينما لا يوجد لديه بإيران سوى مكتب واحد بمدينة قُّم، وهو إيراني الأصل، ويُقيم هناك.
كذلك لا يذكر مرافق الصَّدر محمد رضا النُّعماني، في كتابه «الشَّهيد الصَّدر سنوات المحنة وأيام الحصار»، والذي جاء على علاقة الصَّدر بالخميني قبل الثَّورة، وهو لا يزال يمكث بالنَّجف، أي إشارة إلى لقاء بين الرَّجلين، وما أشار إليه مِن حث تلاميذه على حضور دروس الخميني، على الرَّغم مِن عدم معرفتهم بالفارسية، قد يعلله كتابة الكتاب ونُشره داخل إيران (1996)، فقد ورد فيه عن الخميني كقائد وليس رجل الدِّين اللاجئ بالنَّجف.
لا يُحبذ الخميني الأحزاب، فبعد الثَّورة ألغى العمل بها، وعندما كانت صلاته جيدة بالنِّظام العراقي السَّابق ذهب إليه ذوو المحكومين بالإعدام (1974)، مِن نشطاء «الدَّعوة»، فلم يتدخل وقال: كيف أُدافع عن «جواسيس»، وقد فُسر قوله ذلك، في ما بعد: كيف يتدخل لإنقاذ مَن اعتبرتهم حكومتهم «جواسيسَ».
إلا أن «الدَّعوة» آنذاك كان محسوباً على مرجعية محسن الحكيم (ت 1970)، ومعلوم أن ولده محمد مهدي الحكيم (اغتيل 1988)، كان المبادر الأول لتأسيس «الدَّعوة» (1959) مع طالب الرِّفاعي، اللذين كسبا محمد باقر الصَّدر للحزب، وشقيق الحكيم محمد باقر (قُتل2003)، ومرجعية الحكيم كانت تنفر مِن الخميني، ويُشار إليه بـ«الشّيوعي»، لهذا قصد الخميني التَّعبير عن نشطاء «الدَّعوة» الأوائل بـ«عملاء الشَّاه (...) المأجورين وخلايا النَّحل الذي يمده السَّافاك بالمال والتَّوجيه» (الموسوي، الثَّورة البائسة). هذا ما كان يسمعه منه القريب منه وصديق ولده، حفيد المرجع أبي الحسن الأصفهاني (ت1946)، وقد أكد موسى الموسوي ما سمعناه، مِن غير واحد، عن رفض الخميني التوسط لدى الحكومة العراقية في شأن المحكومين بالإعدام، عارف البصري ورفاقه.
سيكون ما تقدم ثقيلاً على مَن عدَّ الخميني بأثر رجعي، بعد الثَّورة، بمثابة المعصوم، الإمام والقائد، أما الواقع فالرَّجل كان معارضاً سياسياً، له وما عليه. إلا أن التعظيم والتقديس جاء بعد تنصيب نفسه ولياً مطلقاً، وما قيل في أحواله قبل الثَّورة، وإخلاص الإسلاميين له، صناعة تاريخ يجيدها الشُّعراء، فلأبي الطَّيب (قُتل 354هـ) في ممدوحه: « وَأَعجَبُ مِنكَ كَيفَ قَدَرتَ تَنشا/ وَقَد أُعطيتَ في المَهدِ الكَمالا» (الدِّيوان، شرح اليازجي). هذا عين ما قرأته عن الخميني بأقلام الإسلاميين، لكنها أقلام بعد الثَّورة، فقبلها لم يكن موجوداً في ذاكرتهم!
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة