"دبكة" لبنانية على حافة المجهول.. من يضبط الإيقاع؟
على حافة المجهول يقبع لبنان في إيقاع مرتبك لـ"دبكة" سياسية تعيد تدوير "نوتات" مستهلكة تنذر بالأسوأ، وسط قلق دولي من تداعيات وخيمة.
حالة من الغموض والضبابية تطوق البلد عقب اعتذار رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري عن مهمته بعد نحو 9 أشهر من تسميته، في خطوة تكتب سيناريوهات تتقاطع عند إحداثيات غير مبشرة.
اعتذار لم يكن مفاجئا بالنظر إلى ما سبقه من تمسك مختلف الفرقاء بشروط لم تخففها حتى الضغوط الخارجية وتلويح أوروبا بفرض عقوبات مباشرة على السياسيين المعرقلين لتشكيل الحكومة.
قرار ينهي فترة زمنية يرى خبراء أنها لم تفعل شيئا سوى أنها تعيد لبنان إلى نقطة البدء في أزمته، وتعيد تدوير اللعبة السياسية بين نفس اللاعبين، ما يطيل أمد الخلافات، ويفاقم بالتالي من شبح الانهيار في بلد بدأت جميع مؤشراته تدق ناقوس الخطر.
والخميس، أعلن الحريري اعتذاره عن تشكيل الحكومة إثر لقاء جمعه بالرئيس ميشال عون في قصر الرئاسة شرق العاصمة بيروت، وذلك غداة تقديمه تشكيلة وزارية للرئيس.
وعقب اللقاء، قال الحريري إن عون طلب تعديلات جوهرية تطال تسمية الوزراء، وأبلغه أيضاً أنه من الصعب الوصول إلى توافق، في طريق مسدود شبيه بما انتهى إليه الحريري لدى تقديمه تشكيلته السابقة (من 18 وزيرا).
عرض ورفض؛ نفس المسار تقريبا ونفس ردود الأفعال التي تعمق أزمة لبنان في وقت يخشى فيه المجتمع الدولي انزلاق لبنان إلى المجهول ويصعب فيه الاتفاق على شخصية بديلة عن الحريري لتشكيل الحكومة.
"فصل مأساوي"
فرنسا التي نزلت بثقلها في المشهد اللبناني عقب انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020، ومنح رئيسها إيمانويل ماكرون، حينها، القوى السياسية مهلة من 4 إلى 6 أسابيع لتشكيل "حكومة مَهَمّة"، تلوح اليوم بورقة العقوبات.
قائمة فرنسية أوروبية محتملة قد تجمع السياسيين اللبنانيين بمن فيهم الحريري نفسه، وسط "لوم" من باريس يشمل جميع اللاعبين في لبنان، حيث اعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أن اعتذار الحريري يشكل “فصلا مأساويا إضافيا في عجز المسؤولين اللبنانيين عن إيجاد حل للأزمة (…) في ظل الواقع الاقتصادي والاجتماعي" في البلاد.
واعتبر لودريان أن "هذا التدمير الذاتي المستمر شهد للتو فصلا جديدا"، لكنه ترك مع ذلك نافذة أمل مستدركا أن "الوقت لا يزال متاحا للنهوض مجددا، وهذا الأمر يضع المسؤولين السياسيين اللبنانيين أمام مسؤولياتهم".
نافذة يبدو أن فرنسا تريد إبقاءها مفتوحة قبل اللجوء إلى ورقة العقوبات، وهو ما تجسد من خلال دعوتها لبنان لإطلاق مشاورات برلمانية "فورا" لاختيار رئيس وزراء جديد.
كما دعت باريس أيضا إلى عقد مؤتمر دولي جديد في 4 أغسطس/ آب المقبل للاستجابة لاحتياجات الشعب اللبناني الغارق في أتون أزمة خانقة فاقمها انهيار الليرة مجددا أمام الدولار عقب اعتذار الحريري.
خناق دولي يضيق
الولايات المتحدة الأمريكية -كما فرنسا- لن تهمها كثيرا مبررات اعتذار الحريري بقدر ما يعنيها المشهد المتأزم في البلاد، ما يعني أنه حال قررت واشنطن ودول غربية أخرى تنفيذ عقوبات متوقعة بنهاية يوليو/ تموز الجاري، فإن ذلك لن يستثني الحريري ولا عون أيضا.
فما يثير القلق دوليا هو أن إحداثيات المشهد في لبنان تمنح انطباعا واحدا وهو فشل الطبقة السياسية في التغيير والإصلاح، فيما يمكن اعتباره رفضا أو تعنتا جراء حسابات سياسية ضيقة تستهدف تدوير الأزمة لإطالة أمدها بما يخدم أطرافا معينة.
مشهد معقد قد لا يمنح الغرب من حل سوى الضغط على السياسيين بالعقوبات لدفعهم إلى مغادرة مواقعهم والانفتاح على المبادرات المطروحة دوليا، في وقت يرجح فيه البنك الدولي أن يكون الانهيار الاقتصادي في لبنان من بين ثلاث أشد أزمات في العالم منذ عام 1850.
كما أن سياسة "الفرص المفتوحة" التي دأب المجتمع الدولي على تبنيها مع لبنان قد لا تجدي نفعا مستقبلا، خصوصا أن التجربة أكدت أن الضغوط الدولية التي مارستها فرنسا، خصوصاً منذ الانفجار، على الطبقة السياسية في تسريع عملية التأليف لم تنجح، رغم أن المجتمع الدولي اشترط تشكيل حكومة من اختصاصيين تقبل على إصلاحات جذرية مقابل الدعم المالي.
استشارات نيابية فورية؟
باعتذار الحريري، ينص الدستور اللبناني على أن يدعو عون إلى استشارات نيابية ملزمة من أجل تكليف شخصية أخرى بديلة لتشكيل الحكومة.
لكن مراقبين يرون أن الخطوة مستبعدة الآن، حتى في ظل الضغط الفرنسي، بالنظر إلى حالة التشتت والارتباك السائدة بالمشهد اللبناني، خصوصا أن اعتذار الحريري، وإن كان متوقعا، إلا أن حدوثه بالفعل شكل مفاجأة لدى معظم الأطراف.
كما أنه من الصعب وسط كل هذه التطورات والأزمات أن يحصل توافق سياسي على اختيار بديل عن الحريري حالياً، في ظل رفض رؤساء حكومات سابقين مثل فؤاد السنيورة وتمام سلام ونجيب ميقاتي تسمية ودعم أي شخصية "سنية" أخرى خلافا للحريري لتولي رئاسة الحكومة.
فمن أزمة التأليف، يعود لبنان إلى أزمة التكليف، ليراكم أزماته في زاوية تلقي بثقلها على شعب بات عاجزا عن توفير مستلزمات حياته اليومية، وقد يشهد بالفترة المقبلة تداعيات وخيمة لما بعد الاعتذار.
مجهول يقبل عليه لبنان استشرفه الحريري نفسه بالقول خلال إعلان اعتذاره "الله يعين البلد"، من منطلق إدراكه أن لا شخصية بديلة عنه متفق عليها من جانب الأطراف السياسية، ما قد ينذر بالكارثة.
aXA6IDE4LjIxNy4xNDAuMjI0IA== جزيرة ام اند امز