بعد ثلاثين عاما على توقيع اتفاق الطائف ليس صدفة أن يثور اللبنانيون في هذا العام فذلك حراك وجداني لبناني غير مقصود.
بعد ثلاثين عاما بالكمال والتمام على توقيع اتفاق الطائف في 30 سبتمبر 1989، وإقراره بقانون في 22 أكتوبر حيث أنهى الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت أكثر من 15 عاما، ليس صدفة إذن أن يثور اللبنانيون في شهر أكتوبر من هذا العام، فذلك حراك وجداني لبناني غير مقصود جاء بناء على تراكمات من الفساد والفشل.
إن القوة الحقيقية لن تأتي إلا من وحدة الطوائف والمذاهب تحت مظلة واحدة هي شعب لبنان، شعب فقط دون أي تقسيمات، وإن رفض الشعب بطوائفه للنظام السياسي المبني على التمذهب والتطيف هو رفض ضمني لتقسيمه الشعب على ذلك الأساس
في هذا العام يكون قد مر ثلاثون عاما على توقيع اتفاق الطائف، أي أن مواليد اتفاق الطائف أكملوا في هذا الشهر ثلاثين عاما، هذه الثلاثون عاما تحسب في وجدان اللبنانيين باعتبارها ماسحة التجربة التي أعطاها الشعب لسياسيي الطوائف والمذاهب في لبنان، وكأنهم قالوا لهم ضمنيا: "أمامكم ثلاثون عاما اثبتوا لنا عبرها نجاح اختياركم مبدأ المحاصصة والطائفية".
وبعد ثلاثين عاما من الفشل والفساد والانحيازات غير الوطنية والخيانة والعمالة، والتواطؤ الجمعي على رهن مقدرات لبنان لتكون في يد بلد خارجي هو إيران، بعد كل هذا خرج ذلك الجيل اللبناني مجتمعا، خرجوا كلبنانيين وفقط، ولم يخرجوا طوائف ومذاهب، خرجوا يرددون شعارات واحدة ضد السياسيين مجتمعين، خرجوا بدافع الخوف على الوجود، والرفض لكل ما هو سياسي، خرج اللبنانيون رافعين كشف حسابهم للسياسيين الذين تاجروا بكل شيء حتى الوطن، وباعوا كل شيء حتى الانتماء ونخوة الوجود.
العراق هو ذلك الانعكاس لما حدث في مرآة لبنان، مرآة تظهر بجلاء البصمة الطائفية بكل قبحها، فكما كان اتفاق الطائف في عام 1989 هو محطة مهمة لإنهاء حرب أهلية بشعة، إلا أنه كان محطة استغلها السياسيون اللبنانيون لترسيخ محاصصة سياسية بغيضة.
وكما كان الطائف في لبنان، كان دستور 2005 في العراق محطة مكملة لبصمة "بول بريمر" الذي وضع بذرة الطائفية والعرقية في العراق، ورغم أن هذا الدستور العراقي بريء من الإشارة بشكل صريح إلى تلك التقسيمة الطائفية البغيضة، فإنه حمل في طيات مواده بعضا من الديناميت النائم الذي يجعل الدستور مخطوفا ومرهونا في يد المساومة والصفقات السياسية.
بعد الصفقة الكردية الشيعية ابتلع العرف الدستور، بمعنى أصبحت رئاسة الجمهورية من حق الكرد، ورئاسة الوزراء من حق الشيعة، وهو المنصب المهم في نظام اختاروه ليكون نظاما برلمانيا، جميع صلاحياته في يد رئيس الوزراء، وأعطوا للسنة منصب رئيس البرلمان في تشكيلة برلمانية داخلية تجعل القرار أصلا في يد الكتلة الشيعية والكتلة الكردية، أي أن نصيب السنة من الكعكة لم يرقَ لأي شيء أصلا.
بعد أربعة عشر عاما تأكد للجميع أن العرف هو الذي يحكم العراق وليس الدستور، فليس هناك مادة واحدة في الدستور العراقي 2005 تنص صراحة على أن توزيع الرئاسات الثلاث على طوائف بعينها، ولا حتى على لفظ الشيعة والسنة والكرد وغيرهم، وإنما هي صفقة الدسائس وتوزيعة الماكرين الذين رهنوا قرار بلادهم في طهران.
العراقيون بوجدان حضارة الرافدين وعمق التاريخ والثقافة والنخوة والعروبة كانوا يشعرون أن هؤلاء السياسين لا يشبهونهم، إن تلك التقسيمة تتنافى مع عروبتهم التي لم تفرق بين مسيحي وإسلامي، وتتنافى مع إسلامهم الذي لم يفرق بين كردي وعربي، فبدأوا يثورون.
ففي 2013 انطلقت احتجاجات في المناطق ذات الأغلبية السنية، مثل الرمادي، صلاح الدين، الموصل، كركوك ثم انتقلت تلك الاحتجاجات إلى بغداد ومناطقها، وانبرى النظام الحاكم الطائفي يتعامل بقسوة وعنف مع تلك الاحتجاجات؛ وهنا أذكركم بما حدث في "الحويجة" في مساء 23/ 4/ 2013 حين أطلقت قوات الأمن النار على المتظاهرين وسقط ما يقارب 200 بين جريح وقتيل.
وقتها كان القرار السياسي مشككا في تلك المظاهرات باعتبارها مظاهرات من مناطق سنية حاقدة على النظام الشيعي الحاكم، لكن وبعد خمسة أعوام وتحديدا في يوليو 2018 انتفضت المحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية ضد الطبقة الحاكمة، تلك المحافظات التي سبق وخرجت ضمن سياق سياسي مضلل لتهتف للطبقة السياسية الشيعية الحاكمة في مواجهة مناطق سنية أخرى.
انتفاضة محافظات الجنوب "البصرة، الناصرية، النجف، العمارة، كربلاء، السماوة" كانت لها دلالات شديدة الأهمية:
أولا: رغم أن المتظاهرين خرجوا بدافع لقمة العيش؛ فإن الوجدان العراقي الأصيل كان يعرف أن العلة هي التركيبة السياسية، انتقلت المطالب من شعارات لقمة العيش إلى التظاهر ضد المحاصصة السياسية، ضد سيطرة الأحزاب الدينية على القرار السياسي ولأول مرة أحرقت صور "الخميني وعلي خامنئي" وتم إحراق مقار الأحزاب الشيعية "حزب الدعوة، كتائب حزب الله، حزب الفضيلة".
العراقيون بعد ستة عشر عاما يستفيقون ضد نظام طائفي بغيض، نظام عقيم لم ينجب مالا ولا بنون، وإنما أنجب حقدا وضياع هيبة وخيانة، العراقيون الذين خيرهم على كثير من الشعوب العربية وصل بهم الحال إلى شح لقمة العيش والبطالة وهم يسمعون كل يوم عن صفقات الفساد.
العراقيون لم يجدوا لقمة والعيش وظلوا محتمين بكرامتهم حتى توالت الأحداث يوما بعد يوم وهم يرون تلك الكرامة تضيع، ولعل حادثة الاعتداء على امرأة عراقية من قبل ضابط إيراني كانت القشة التي قسمت صبر ذلك الشعب الأبي.
لعل صيحات ملالي إيران بضرورة حل الجيش العراقي ليحل محله الحشد الشعبي كان الرعب الكامن في وجدان هذا الشعب الذي يعرف جيدا أن شعبا بلا جيش سيتحول إلى عبيد في بلاط فارس، كل هذا جعلهم ينتفضون ضد تلك التركيبة الطائفية "بين سنة وشيعة" وضد التركيبة العرقية "من كرد وعرب".
ستة عشر عاما في ذاكرة الشعب العراقي كانت كفيلة بأن يستفيقوا ليتأكدوا أن وحدتهم وتماسك لحمتهم وأن عراقيتهم فقط هي حصن الأمان.
اللبنانيون بعد ثلاثين عاما أدركوا أن سرقة اتفاق الطائف من قبل جنرالات الحرب الأهلية اللبنانية وإعادة تركيبته بهذه الصورة كانت وبالا على بلد من أجمل بلاد العرب، وشعب متحضر وراقٍ.
مظاهرات لبنان لا يجب أن تؤخذ في إطار أنها مظاهرات ضد الفساد أو ضد البطالة أو غلاء الأسعار إطلاقا حتى لو كانت تلك أسبابا وجيهة ومهمة، لكن الوجدان اللبناني الحاكم خرج ليقول إن اللبنانيين كشعب أكبر ومهم من تلك الطبقة الفاسدة من السياسيين، لعل الهتافات التي يرددها المتظاهرون في الشارع تعكس كثيرا من المكبوت في وجدان اللبنانيين وهم يقولون: "كلهم حرامية، كلهم فاسدين".
فكرة الإجماع، وضعهم جميعا في كفة واحدة، كل ذلك وعي شعبي تجاه تلك المحاصصة والطائفية.
مظاهرات لبنان لم تقتصر على مدينة بعينها أو طائفة بعينها أو تركيبة بعينها، بل خرجت في مدينة صور وضواحيها في جنوب لبنان، طالت الهتافات نبيه بري، كما طالت حسن نصرالله وتمت مهاجمة مكاتب حزب الله وحركة أمل.
كل ذلك يكسر محظورات وثوابت ظلت مترسخة في ذاكرة الخوف اللبنانية، تلك الذاكرة البغيضة التي دفعت الطوائف اللبنانية تحتمي بسياسييها ضد الطوائف الأخرى، كل طائفة اختارت كبيرا لها يحميها من بطش طائفة أخرى.
لكن تلك اللحظة المهمة تقول إن الطائفة اللبنانية مهما كانت قوتها ستظل ضعيفة لأنها ببساطة هي مجرد طائفة، وإن القوة الحقيقية لن تأتي إلا من وحدة الطوائف والمذاهب تحت مظلة واحدة هي شعب لبنان، شعب وفقط دون أي تقسيمات، وإن رفض الشعب بطوائفه للنظام السياسي المبني على التمذهب والتطيف هو رفض ضمني لتقسيمة الشعب على ذلك الأساس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة