ليبيا فوضى غير خلاقة وسيناريو التقسيم
ما الذي يحدث على الأراضي الليبية، هل هي استعدادات معركة سرت والجفرة، أم بدايات تقسيم ليبيا؟
ما الذي يحدث على الأراضي الليبية في الأيام والساعات الأخيرة؟ وهل هي استعدادات تجري على قدم وساق لمعركة سرت والجفرة القادمة، أم بدايات لمخطط تقسيم ليبيا، ذاك الذي يمكن أن يمتد إلى غيرها من دول الجوار في المدى المنظور؟
يبدو أن الجواب غير واضح، بقدر حالة الفوضى والضبابية التي تجري بها الأقدار على التراب الوطني الليبي، والذي شهد في الساعات القليلة الماضية عدة زيارات مثيرة للانتباه، في مقدمتها زيارة وزير الخارجية الألماني "هايكو ماس"، عطفا على وزيري الدفاع التركي "خلوصي آكار"، والقطري "خالد بن محمد العطية".
من جهة أخرى وقبل أيام معدودات جرت اتصالات هاتفية مكثفة بين الرئيس ترامب والأغا العثمانلي أردوغان، وأخرى بين القيصر بوتين وصاحب أنقرة، ويبدو أن هناك سيناريو ما يراد تنفيذه في ليبيا من قبل القوى الكبرى الساعية لتعزيز مصالحها، حتى وإن حدث ذلك على حساب مستقبل الليبيين ووحدة الأراضي الليبية.
من أين للمرء أن يبدأ، وحتى لا يفقد القارئ بوصلة التوجه أثناء القراءة، بسبب تداخل الخيوط وتشابكها، في زمن الفوضى الليبية غير الخلاقة.
هنا دعونا نشير إلى عدة نقاط: بداية لا بد من الحديث عن الشر المجاني التركي القطري المحمول جوا إلى ليبيا، والذي تمثل في الاتفاق الثلاثي بين الدوحة وطرابلس وأنقرة لزيادة الدعم العسكري لطرابلس، بهدف معلن؛ وهو رفع قدرات المؤسسات العسكرية التابعة لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، وآخر خفي يتمثل ربما في المضي قدما في المعركة الخاصة بسرت والجفرة، على الرغم من الأحاديث العديدة التي تدور حول وقف إطلاق النار، والمضي في عملية سلمية تجمع الأطراف الليبية كافة.
الشر المجاني القطري التركي أسفر ضمن الاتفاق الثلاثي الأخير عن بلورة رؤية لإرسال مستشارين عسكريين قطريين إلى ليبيا لتدريب العناصر الليبية في الغرب الليبي، والوعد بإعطاء مقاعد لليبيا في الكليات العسكرية التركية والقطرية، لرفد جماعة الوفاق في المدى الزمني القريب بكوادر عسكرية جديدة، ولضمان بقاء المعركة مشتعلة.
ضمن خطوط انتهاك سيادة ليبيا من قبل الدوحة وأنقرة، تضمنت مباحثات "آكار والعطية"، مع السراج وجماعات الإرهاب في طرابلس، ملف تطوير قاعدة عقبة بن نافع الواقعة في أقصى الغرب الليبي، وتزويدها بمعدات عسكرية متطورة، كما راجت أنباء حول تحويل بعض موانئ الغرب الليبي إلى محطات عاجلة للبحرية التركية، الأمر الذي يعني تحولا كبيرا في موازين القوة على الأرض، لصالح الأتراك والقطريين.
في الآونة ذاتها تستمر تركيا في إرسال المرتزقة والإرهابيين، وإن بدأ هؤلاء في فضح مخططات العمالة والإرهاب على شاشات الفضائيات بسبب الاختلاف على تقسيم الغنائم، كشأن المرتزقة.
نأتي للمشهد الثاني، والمتعلق بزيارة وزير الخارجية الألماني "هايكو ماس" إلى ليبيا، والذي صرح عقب هبوطه في العاصمة طرابلس على متن طائرة عسكرية تابعة للجيش الألماني بأن "الوضع خطير للغاية في الدولة الواقعة في شمال أفريقيا".
هنا لا بد من الإشارة إلى جزئية غاية في الأهمية، وهي أن الاستخبارات الألمانية والتي تعد الأمهر والأخطر في الشرق الأوسط باتت على قناعة تامة بأن هناك حربا إقليمية على بُعد خطوات من جنوب أوروبا، وأن لهيبها سوف يطول أوروبا بحال من الأحوال، ولهذا فإن إجراءات الوقاية ربما تكون أفضل من وصفات العلاج.
هل لهذا بدأت ألمانيا تتخلى عن حيادها المنظور وتنغمس في الأزمة الليبية، وبما هو أبعد من مجرد استضافة مؤتمر برلين والدخول في غمار الأزمة بقوة؟
يمكن أن يكون ذلك بالفعل، ففي الأسبوع الأول من شهر أغسطس/آب الجاري، تحركت الفرقاطة الألمانية "هامبورج"، من ميناء "فيلهلمسهافن" الألماني إلى مياه البحر الأبيض المتوسط في مهمة تستغرق خمسة أشهر، قبالة السواحل الليبية، لمراقبة حظر الأسلحة إلى ليبيا، تنفيذا للقرار المفروض من مجلس الأمن، والذي ضربت به تركيا عرض الحائط في 10 يونيو/حزيران الماضي، حين أرادت فرقاطة فرنسية إيقاف قطع بحرية تركية تحمل أسلحة للوفاق والإرهابيين على الأراضي الليبية، وبلغ الأمر حد قيام الأتراك بفتح رادار سفنهم العسكرية، في إشارة إلى الجاهزية لإطلاق النار على القطع البحرية الفرنسية.
هل نحن أمام إرادة أوروبية صاعدة ومناهضة لمواجهة مؤامرات الشر التركي القطري في ليبيا، لا سيما أنه يوما تلو الآخر يتكشف للأوروبيين مقدار الخطر الذي تمثله قطر تحديدا على السلم والأمن الأوروبيين، سواء داخل الحدود الجغرافية للقارة العجوز، أو من خلال شواطئها الجنوبية في شمال أفريقيا؟
المشهد الثالث الذي نحن بصدده موصول بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنوع خاص، وهل الهدوء الذي عم سرت مؤخرا ناجم بالفعل بسبب تهديدات أمريكية صريحة وواضحة لجميع الأطراف المتنازعة لترتيب الأوراق لسيناريو حذر الجميع من تبعاته واستحقاقاته منذ فترة طويلة؟
نهار الأربعاء الفائت 13 أغسطس/آب أعلنت السفارة الأمريكية في ليبيا أن الرئيس ترامب بحث في اتصال هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان الخطوات اللازمة لتحقيق حل يتمثل في جعل منطقتي سرت والجفرة منزوعتي السلاح، وتحقيق انسحاب كامل ومتبادل للقوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا.
هل المقترح الأمريكي ظاهره الرحمة وباطنه العذاب كما يقال؟
ربما ينبغي علينا أول الأمر التساؤل عن فكرة المناطق المنزوعة السلاح بحسب القانون الدولي، وهي باختصار غير مخل: "المناطق التي يتم فيها حظر الأنشطة العسكرية وبكل أشكالها وأنواعها، وبين قوتين متحاربتين لدولتين مستقلتين وذات سيادة".
وبمعنى أكثر وضوحا أنها محاولة للفصل بين قوات عسكرية متحاربة، تنتمي إلى جهتين أمميتين متصارعتين على الأرض والموارد، وبسبب خلافات على رسم الحدود أو وجود جغرافيا متنازع من حولها كالجزر، وهناك أمثلة عدة يمكن أن ندلل بها على تلك المناطق، وفي مقدمتها ما كان بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية قبل تفكك الاتحاد السوفيتي، وقبرص، وجنوب لبنان، والجولان السوري.
هل المشهد في ليبيا يتسق وفكرة المناطق المنزوعة السلاح؟
المؤكد أن الليبيين شرقا وغربا هم جسد واحد ولحمة واحدة، ووجود مناطق منزوعة السلاح أمر سيؤدي إلى تعميق هوة الخلاف، بل الحقيقة أنه سيكون مؤشر مؤكد لسيناريو تقسيم ليبيا إلى شرق وغرب وجنوب.
كارثة هذا الطرح تتأتى من كونه نموذجا يمكن أن تسلكه دول جوار أخرى، ما يعني أن سايكس بيكو 2 قادمة لا محالة.
مَن ينقذ ليبيا من الضياع القائم والقادم؟