فجَّرت نزعةُ أردوغان الاستعلائية وأطماعه في ثروات مياه المتوسط مكامن الرفض والتحدي من قبل الدول التي تدرك أبعادها.
الحرائق التي أشعلها العثماني الجديد في سوريا وليبيا والعراق وغيرها أفرزت حالةً من الاستقطاب الإقليمي والدولي ورفعت منسوب التوتر سياسياً وعسكرياً، وشرّعت الأبواب أمام التيارات والقوى الظلامية والإرهابية لتظهرَ معلنةً استعدادها وانخراطها في مشاريع أردوغان ضمن معادلة التخادم المتبادلة بينهما، ومع ذلك ظلت بعض الجبهات، في ليبيا وسوريا والعراق وغيرها، في حالة من الركود ولم ينزلق أردوغان نحو مواجهة مع قوى إقليمية أودولية ؛ طبعا مع افتراض أن الاحتكاكات القليلة مع روسيا في شمال سوريا بين الحين والآخر ما هي إلا محاولات لتحسين مواقع التفاوض والمحاصصة بين الجانبين . الوضع مغاير تماما في ما يتعلق بمياه المتوسط والتجاذبات الإقليمية والدولية للدول المطلة عليه حيث يكتنز من ثروات الطاقة ما يدفع اللاعبين إلى خوض غمار الصراع السياسي وغيره بدافع حماية المصالح ودرء مخاطر التوسع التركي الذي لابد وأن يترافق مع مغامرة التنقيب عن الغاز والنفط .
فجَّرت نزعةُ أردوغان الاستعلائية وأطماعه في ثروات مياه المتوسط مكامن الرفض والتحدي من قبل الدول التي تدرك أبعادها وخطورتها وما تنطوي عليه من تحديات أمنية وسياسية مستقبلاً، وأصبح أردوغان في مواجهة سياسية علنية مع اليونان ومع مصر وحلفائهما الدوليين والإقليميين ؛ فوجدت القاهرة وأثينا في ذلك فرصةً لترسيخ التعاون وتأطيره باتفاقيات ثنائية لحماية مصالحهما المشتركة، وإذا كانت القاهرة جزءاً أساسياً في هذه المعادلة ؛ فإن أثينا تمتلك من مقومات التاريخ والجغرافيا مايمنحها القدرة الفائقة للتصدي لأردوغان ومحاولاته الرامية للعبث بأمن ومقدرات منطقة المتوسط، فاليونان شريكةٌ أطلسية لتركيا لكنها في حالة حرب معها بسبب احتلال تركيا لشمال قبرص، وأوروبا تساند اليونان في حقوقه في قبرص وفي المتوسط من ناحيتين : الأولى حقوقية، والأخرى نابعة من الانتماء المشترك للنادي الأوروبي الذي يرفض حتى الآن قبول تركيا بين أعضائه، ويقف موحداً في مواجهته في ليبيا، وكلها عوامل من شأنها تأجيجُ الصراع الذي تجلت ملامحه في القرار الفرنسي بتعزيز وجودها العسكري في منطقة المتوسط بعد تفاهمات بدت علنيةً مع أثينا بكل ما يعنيه ذلك من أبعاد استراتيجية لا تقتصر على درء مخاطر الاندفاع التركي فحسب، بل تُفصحُ عن إطار عمل وتنسيق لشراكة أوروبية ناشئة تتشكل لمواجهة الأطماع التركية .
يستدرج الرئيس التركي نذرَ الحرب إلى المتوسط بسياسته المؤطَّرة بنزعة توسعية وعدوانية وكأنه يسعى إلى ترجمة أهدافه من خلال خلط الأوراق في لعبة استمرأها في جميع الساحات التي يتعمد نشر الفوضى فيها وحَوْلها بهدف فرض هيمنته بما يتاح له من أسباب وأساليب، لكنْ لابد من النظر إلى تفرّع مسارات النزعة التوسعية التركية الراهنة يوماً بعد يوم وفي كل وجهة من تلك المسارات والتفرعات من زاوية التمدد الأرعن الذي يستجلب تحدّيين كبيرين لأردوغان ؛ الأول ازديادُ خصومه الدوليين وخاصة عواصم القرار الأوروبي كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهي دول لها مصالحها المشتركة في المتوسط على المستويات الاستراتيجية والمصالح المشتركة مع بعض حلفائهم من الدول الأخرى المطلة على البحر، والتحدي الثاني يتمثل في تضعضع قدرته وقوته المنتشرة على الأرض وتوسعها في عدد من الدول التي استهدفها باحتلاله وعدوانه وصولا إلى التشتت التدريجي لتلك القوة .
عوامل التوتر المتنامي على تخوم المتوسط تتكثف، وملامح المواجهة ببعديها المباشر وغير المباشر ترتسم، ويبدو أنها ستصبح حاضرة على طاولة اهتمام المجتمع الدولي بشكل أوسع تدريجيا نتيجة إمعان الرئيس التركي بالمضي قدما نحو فرض إرادته على الآخرين دون اكتراث بمصالح إلا من أذعن له ولمشروعه التوسعي وأعلن قبوله بالانخراط فيه وقدم القرائن على استعداده للخضوع لسيده العثماني . تَعدّدُ ساحات المواجهة التي يوغل أردوغان في توسيعها لفرض نفسه طرفاً فيها برا وبحرا، تنطوي على مخاطر متعددة ؛ منها المخاطر الخارجية التي يحملها الغازي التركي وما تتضمنه من دمار وخراب وتشريد واحتلال ونشر للفوضى يقتات على مخلفاتها لذر الرماد في العيون، ولإطالة فترة احتلاله، وتبرير أطماعه كما حدث في سوريا، ومنها المخاطر المترتبة على الغازي ذاته داخلياً بجميع عناصرها السياسية والحزبية والاقتصادية والأمنية، فضلاً عن الدول المستَهدَفة حيث تجد نفسها مدفوعةً بواجب حماية حقوقها ومصالحها وسيادتها واستقلالها ومستقبلها، ولا تتردد في اللجوء إلى الأصدقاء والحلفاء وأصحاب المصالح المشتركة معها لدرء الخطر التركي الداهم مما يؤسس لاندلاع حروب ومواجهات عسكرية محتملة تنعكس سلباً على الأمن الإقليمي والدولي على حد سواء.
قرارُ باريس بتعزيز وجودها العسكري في المتوسط يندرج ضمن استراتيجية الردع الاستباقية الفرنسية الموجهة للجانب التركي بعد أن تفاعلت وتقاطعت باريس مع أثينا وعدد من نظرائها الأوروبيين وغيرهم في المنطقة، وبعد أن أمعنت تركيا – أردوغان في استفزازهم وانتقلت إلى مرحلة تهديد مصالحهم، ومن شأن هذه الإستراتيجية أن ترتّبَ الكثيرمن المتاعب لأردوغان حتى في المناطق التي يحتلها في سوريا وليبيا والعراق بعد أن أيقظت سحبُ الأطماع التركية الأوروبيين ودفعتهم نحو التقارب وتوحيد الجهود للعمل على منع أردوغان من مواصلة سياسة التطاول على حقوقهم وضرب مصالحهم، كما من شأن استراتيجية الردع الفرنسية أن تشكل قاعدة عمل استراتيجية لمجمل الدول المهدَّدَة بنزعة التوسع الأردوغانية مع ما ترتبه من عملية لرسم حدود مصالح الجميع وعلى مستوى المنطقة برمتها .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة