يمر النظام الدولي بحالة من السيولة لم يشهدها منذ تأسيسه فيما بعد الحرب العالمية الثانية، هذه السيولة تركت معظم دول العالم في حالة من عدم اليقين، وعدم الوضوح، والانفتاح على جميع الاحتمالات.
وقد تضاعفت هذه الحالة بسبب تراجع القدرات القيادية للدول ذات التأثير الأكبر في العالم؛ إذ يشهد العالم أن العديد من قيادات الدول الكبرى والعظمى لا يرتقون إلى المستويات التي تتطلبها الأحداث والتحديات الدولية.
وقد برز هذا واضحاً خلال جائحة كورونا، وكان أكثر وضوحاً مع اشتعال الحرب الأوكرانية، وإعادة أزمة تايوان وعلاقتها بالصين إلى واجهة الأحداث لتحقيق مصالح سياسية في مواجهة الصين لا علاقة لها باستقلال تايوان من عدمه.
في خضم هذا المحيط الدولي المرتبك والعاجز عن مواجهة التحديات الكبرى التي توشك أن تدخل بالعالم في مواجهات لا تحمد عقباها على المستويات العسكرية والاقتصادية، يواجه العالم العربي العديد من التحديات التي قد تقوده إلى مزيد من التشتت والتشرذم والارتباك. هذه التحديات غير المسبوقة في حدتها وخطورتها نتجت عن انتفاضات الربيع العربي المشؤوم؛ وما تركته من آثار سلبية على كيانات الدول الوطنية، وعلى العلاقات بين الدول العربية. وفي السياق الآتي يمكن تلخيص هذه التحديات بإيجاز:
أولا: كيف يمكن أن تستعيد المجتمعات العربية التي دخلت حالة من التفكك، والتصادم والتحارب فيما بعد ثورات الربيع العربي المشؤوم وحدتها وتماسكها الداخلي؟ وكيف يمكن لهذه المجتمعات إعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية بين مكوناتها من جديد؟ هذا التحدي ليس مقصوراً على الدول التي شهدت انتفاضات، وإنما أيضاً تعاني منه المجتمعات التي ساندت تنظيمات التوظيف السياسي للإسلام، لأنها عانت من نفس الانقسام والتشرذم، ودخلت في حروب افتراضية لا علاقة لها بها؛ إلا أنها تشجع أحد الفريقين المتحاربين.
هذا التحدي يحتاج إلى جهود ضخمة جداً من مؤسسات الدولة والجامعات ومراكز البحوث والمثقفين لإعادة ترسيخ الروابط المشتركة بين مكونات المجتمع، وتجاوز كل الخطابات السلبية التي تم ضخها في الوعي المجتمعي في فترة الصراع السياسي على السلطة فيما بعد 2011، ولن يكون من قبيل المبالغة التأكيد على أن هذا الموضوع من أخطر التحديات التي تواجه العديد من الدول العربية، لأن مسألة التكامل الوطني، والتماسك الاجتماعي هي القاعدة الصلبة التي يمكن من خلالها مواجهة جميع التحديات الأخرى.
ثانياً: كيف يمكن إعادة توحيد كيان الدول التي أوشكت على التفكك والانقسام سواء على أسس مناطقية أو دينية أو مذهبية؟ وكيف يمكن إعادة ترسيخ قيمة الانتماء الوطني بدلا من الانتماء الإقليمي، أو المذهبي أو الديني أو الحزبي؟ وكيف يمكن إعادة تشكيل نخبة سياسية واحدة تكون هي المعين الذي يتم من خلاله اختيار قيادات الدول ومسؤوليها التنفيذيين؟
لقد دخلت العديد من الدول العربية منذ احتلال العراق 2003 في حالة من التفكك الفعلي سواء على مستوى الإدارة والحكم، أو على مستوى الوعي السياسي، أو على مستوى تجنيد واختيار النخب السياسية التي من المفترض أن تقود الدولة، ففقدت هذه الدول مفهوم النخبة الوطنية الواحدة، وأصبحت هناك نخب متنوعة تمثل مناطقها أو مذاهبها أو أديانها، أو أحزابها؛ هذه النخب لا يجمعها مفهوم الوطن، ولا الانتماء للدولة، ولا تتشارك نفس الوعي التاريخي، ولا تؤمن بمنظومة مصالح وأهداف عليا واحدة لدولتها، وإنما تتصارع وكأنها تمثل دولا عدة، وليس دولة واحدة.
ومن يتابع الصراعات في العديد من الدول العربية التي لم تستطع الخروج من تداعيات انتفاضات الربيع العربي المشؤوم يجد تجسيداً واضحاً لهذه الحالة. وهنا يكون التحدي الحقيقي ليس العودة إلى ما قبل حالة التفكك والتشرذم، لأن هذا صعب التحقيق؛ إن لم يكن مستحيلاً، وإنما التحدي هو كيف يمكن إيجاد صيغة جديدة للانتماء الوطني، وشكل جديد لإدارة الدول مما يسمح بتلاقي المختلفين، والتأسيس لرؤية واحدة مشتركة، وبالتأكيد لن تكون فكرة المحاصصة واحدة من الحلول المتوقعة لأنها اثبتت فشلها بصورة كارثية في كل من العراق وليبيا.
ثالثاً: كيف يمكن إعادة بناء العلاقات البينية بين الدول العربية؛ خصوصا تلك التي مرت بحروب أهلية تداخلت في الأطراف والدول والجماعات؟ وكيف يمكن إعادة تأسيس العمل العربي المشترك على أسس وقواعد جديدة؛ تسمح بتجاوز سلبيات العشرية السابقة، وتتجاوز كل ما حدث فيها؟ وكيف يمكن الاتفاق على نقطة ثبات مرجعية تمثل لحظة تاريخية لا يجب العودة لما قبلها؟ هذا هو أصعب التحديات التي تواجه العالم العربي في هذه اللحظة التاريخية، وبعيدا عن لغة الدبلوماسية، والتصريحات الإعلامية فإن الكم الهائل من المرارات والإحباطات التي نتجت عن أحداث السنوات العشر السابقة لن يكون أمراً يسهل تغييره وتجاوزه والتخلص منه بمجرد اللقاءات والابتسامات والصور، إنها عملية عميقة من الجروح الوطنية، اختلطت فيها الدماء بالدمار بالآلام، لذلك لا بد من أن تنهض نخبة فكرية وثقافية عربية تساعد على تجاوز هذه المرحلة، وتقدم أفكارا إبداعية، ومن خارج الصندوق لإعادة تأسيس علاقات عربية على قواعد جديدة تسمح بتجاوز كل سلبيات الماضي، وإلا سوف يصدق فينا قول الشاعر "نصر بن سيار" المتوفى 748م: أرى تحت الرماد وميضَ نارٍ ويوشك أن يكونَ له ضرامٌ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة