موريتانيا 2019.. عهد سياسي جديد بانتقال تاريخي للسلطة
ما بين بدء الغزواني أولى خطواته لدخول القصر الرئاسي مطلع 2019، وانتهاء بانتخاب قيادة للحزب الحاكم العديد من المحطات السياسية بالبلاد.
مرت أحداث موريتانيا لعام 2019 بمحطات سياسية كان محورها الأساسي دخول البلاد إلى عهد جديد بإنجاز حلم التناوب السلمي على السلطة، واستلام الرئيس الغزواني للحكم في بداية ولاية رئاسية جديدة من 5 سنوات خلفا للرئيس السابق محمد ولد عبدالعزيز.
- ذكرى استقلال موريتانيا الـ59.. مناسبة تدعم الوحدة الوطنية
- خبراء: التحريض سلاح إخوان موريتانيا لكسر عزلتهم وفسادهم
وانطلقت تحضيرات العهدة الرئاسية الحالية للغزواني، مع الأسابيع الأولى لعام 2019، بإعلانه مرشحا للحزب الحاكم، مرورا بمحطة انتخابات واقتراع يونيو/حزيران الرئاسي، وتنصيبه رئيسا جديدا للبلاد مطلع أغسطس/آب 2019، وصولا لحراك وتجاذبات الحزب الحاكم حول ما يعرف بـ"المرجعية".
وما بين بدء الغزواني أولى خطواته لدخول القصر الرئاسي مطلع عام 2019، وانتهاء بانتخاب قيادة للحزب الحاكم المزمع في الـ29 ديسمبر/كانون الأول الجاري، محطات سياسية، كان أهمها المشاورات بين الغزواني ومرشحي وقادة المعارضة التي كان عنوانها تطبيع الحياة السياسية، واستعادة الثقة بين مختلف الأطراف.
خارطة سياسية جديدة
شكل إعلان الرئيس الغزواني ترشحه مطلع مارس/آذار 2019 للرئاسيات إيذانا بإعادة تشكيل الخريطة السياسية، وفق أسس ومنطلقات جديدة تأخذ في الاعتبار خصوصيات الرئيس الغزواني عندما كان مرشحا للرئاسة، ستضفي فيما بعد لقب "مرشح الإجماع الوطني".
وهكذا انطلق مع بواكير تحضيرات الرئيس لخوض غمار الرئاسيات ما اصطلح على تسميته موسم الهجرة إلى الأغلبية، وذلك بانتقال عدد من الأحزاب والقوى السياسية لصف الأغلبية الداعم للرجل.
ولم تقتصر الأحزاب الداعمة للمرشح (الرئيس الغزواني) من داخل الأغلبية، بل استقطبت أيضا وجوها وتشكيلات سياسية معارضة وحتى مستقلة، بما فيها محاولات من الإخوان للتودد للمرشح قبل أن يلفظهم ويرفض دعمهم.
وفيما كان إعادة تشكيل الخريطة السياسية إبان بدء النزال الانتخابي تمنح الغزواني المزيد من نقاط القوة التي ستمكنه فيما بعد من كسب الرهان، كانت المعارضة تواجه الكثير من الانشقاقات والتصدعات.
وبدا فشل المعارضة جليا وتخبطها مع الاصطدام بأول اختبارات الانسجام بين مكوناتها وهو الخروج بمرشح موحد في مواجهة مرشح الأغلبية (الرئيس الغزواني).
وهكذا انهارت آمال المعارضة في الاتفاق حول مرشح موحد، والتي كانت قد عبرت في وثيقة الـ17 يناير/كانون الثاني قبل ذلك، بسبب اصطدامها بـ"الدور التخريبي" للإخوان في زرع الخلافات بين الأطراف والطعن من الخلف للحلفاء السياسيين، والتنكر للعهود والمواثيق المبرمة مع الشركاء".
وقبل أن تبدأ الحملات الممهدة للرئاسيات، أعلنت المعارضة فشل خطة المرشح الموحد مفسحة المجال أمام 5 مرشحين، ضد الغزواني في منازلة يبدو واضحا حسمها لصالح الأخير.
وقبل أن ينطلق سباق الحملات الرئاسية اعتمد المجلس الدستوري الموريتاني منتصف مايو/أيار 2019 لائحة من 6 مرشحين فقط، هم من تقدموا بملفاتهم، قبل انتهاء الفترة الزمنية المخصصة لإيداع هذه الترشحات، مستعرضا اللائحة، ومرتبا إياهم حسب التسلسل الزمني لتوقيت الإيداع.
وضمت اللائحة التي كشف عنها المجلس الدستوري مرشحا مدعوما من الإخوان إلى جانب ناشط حقوقي وقيادي تاريخي من المعارضة، وعنصر شبابي، ورئيس كتلة أحزاب زنجية، وهو ما أظهر عدم وجود منافسة حقيقية للغزواني الذي كان قد حظي قبل ذلك بإجماع سياسي معتبر.
برنامج طموح
ومع دخول الآجال القانونية للحملة الانتخابية، انطلق سباق كان التفوق فيه واضحا للغزواني من خلال نوعية الدعم الذي حظي به في الميدان ونمط الخطاب السياسي الذي بشر به وطموح البرنامج الانتخابي الذي استعرضه أمام الشعب في مهرجاناته الجماهيرية، ولقاءاته الصحفية.
وحمل البرنامج الذي سمّاه "تعهداتي" وعودا صريحة لمحاربة فكر التطرف والإرهاب، بالإضافة إلى مواجهة الفقر وتحقيق التنمية.
كما بشر بعهد جديد من الانفتاح السياسي من خلال "إنشاء مؤسسات قادرة على إدارة حوار سياسي دائم حول الرهانات الكبرى" في البلاد، وكذلك "تهدئة الساحة السياسية حتى يبقى الخلاف على مستوى الأفكار"، وفق نص البرنامج.
واعتبر المراقبون أن هذا البرنامج الانتخابي يلامس هموم المواطنين ويقرأ طموحات الشعب الموريتاني الكبيرة، وسعيه الحثيث نحو مستقبل أفضل"، وأشاروا إلى كونها تعهدات قائد سياسي خبير بالملفات الكبرى للبلد، جمع كاريزما التجربة العسكرية مع تواضع الأخلاق الصوفية.
ومع انتهاء يوم الاقتراع الرئاسي الذي ميزه حضور مكثف للمراقبين الدوليين والمحليين، جاء إعلان الغزواني لفوزه بالرئاسيات فجر 23 يونيو/حزيران، قبل أن يؤكد ذلك تباعا كل من: اللجنة المستقلة للانتخابات والمجلس الدستوري.
فوز سيكون، خاتمة استحقاقات رئاسية واكب التحضير لها بداية عام 2019، وكان تتويجا لعرس ديمقراطي دعت إليه موريتانيا الأشقاء والأصدقاء، ليشاركوها فرحة إنجاز أول تناوب سلمي على السلطة بين رئيسين منتخبين، في حفل تنصيب رأى المراقبون أنه يمثل لحظة فارقة في تاريخ البلد وتجربته الديمقراطية.
ومثّل تنصيب "الغزواني" حدثا بارزا في الحياة السياسية للبلاد، كخطوة هي الأولى من نوعها لانتقال السلطة بين رئيسين منتخبين، تمت بحضور عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية في موريتانيا، إلى جانب الحضور العربي والإقليمي والدولي المعتبر.
حدث تاريخي بامتياز كانت أهم فقراته أداء الرئيس الغزواني لليمين الدستورية التي أقسم فيها على "أداء وظائفه بإخلاص وعلى الوجه الأكمل، ومزاولة تلك المهام مع مراعاة احترام الدستور وقوانين الجمهورية، والسهر على مصلحة الشعب والمحافظة على استقلال البلاد وسيادتها ووحدة الوطن وحوزته الترابية".
كما تضمن القسم فقرة ثانية تنص على "ألا يتخذ أو يدعم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أي مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمدة مأمورية رئيس الجمهورية"، أو ما يمس تحصين مواد المأموريات الرئاسية.
لتكون تتويج هذه الفقرة من الحدث بتوشيح الرئيس الغزواني من طرف رئيس المجلس الدستوري بالوسام الكبير في نظام الاستحقاق الوطني الموريتاني، ليعزف بعد النشيد الوطني، ثم أول خطاب له بصفته رئيسا للبلاد.
وشكل الحدث كذلك أولى محطات بدء الرئيس الجديد ممارسة مهامه، بعد مرحلة الانتخابات وحسم الفوز عبر صناديق الاقتراع.
رسائل الانفتاح
أول خطاب للرئيس الغزواني بصفته الجديدة كان كافيا في رأي المراقبين لرسم ملامح أولويات في الحكم، خصوصا في المجال السياسي، والذي كرس التوجه نحو فتح صفحة جديدة مع الطبقة السياسية، قوامها الحوار والانفتاح وإزالة متاريس التوتر والخلاف، ليفسح المجال أمام ما يريد له أن يكون "تطبيعا للحياة السياسية".
حملت مضامين أول خطاب رسمي للرئيس بمناسبة استلامه مهامه الدستورية، رسائل انفتاح سياسي على أطياف المشهد وإنصافا للشخصيات التي خدمت البلاد في مختلف الحقب التاريخية.
وهكذا شكّل استلام الرئيس الغزواني للسلطة في موريتانيا، مطلع أغسطس/آب 2019، في نظر المراقبين، بداية عهد جديد من الانفتاح السياسي وتكريس مبدأ الحوار والتشاور بين مختلف أطراف المشهد.
وهو عهد بدأت ملامحه تتضح من خلال الجهود الأخيرة لإطلاق حوار سياسي بين الأغلبية وبعض مرشحي المعارضة للرئاسيات الماضية.
انتقال الرئاسة إلى الغزواني عبر تناوب سلمي وسلس للسلطة يعد كذلك مكسبا للتجربة الديمقراطية للبلاد وتجسيدا لتألق وريادة التجربة الديمقراطية الموريتانية في محيطها الإقليمي والدولي، ينتظر أن ينعكس إيجابيا في نظر المراقبين على مختلف جوانب الحياة الاقتصادية الاجتماعية والتنموية للبلد، مثلما يسهم في رفع التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها نظرا لموقعها الجغرافي.
عهد الانفتاح على الشركاء السياسيين في المعارضة والموالاة لم يتوقف عند محطة التنصيب، بل تجسدت في خطوات لاحقة كان من ضمنها استقبالات ثنائية بالقصر الرئاسي لعدد من رموز الطبقة السياسية، ثم توجيه أول دعوة رسمية لمعارضين للمشاركة في مهرجانات وفعاليات وطنية بينها احتفالات الاستقلال ومهرجان التراث السنوي الذي احتضنته مدينة شنقيط التاريخية.
ويبدو من سياق وتطورات الأحداث أن خطوات الانفتاح السياسي التي بدأ بها الغزواني مع أول توجهات وخطط ولايته الرئاسية الأولى ستكون خيارا لا رجعة فيه، وفق المراقبين، الذين يرون هذا الانفتاح حاجة ذاتية للغزواني له علاقة ببرنامجه الانتخابي، قبل أن يكون تلبية لرغبات شركائه السياسيين.
ويرى هؤلاء المراقبون أن هذا الانفتاح يأتي رغبة من الغزواني في تحييد الخلاف السياسي المعوق لمسار تنمية البلد من أجل التفرغ لكل ما من شأنه أن يؤدي إلى تطبيق برنامجه الانتخابي ذي الأبعاد التنموية والمتضمن مقاربة لمحاربة الفقر والهشاشة والغبن الاجتماعي.
الفريق الحكومي
خطوة التنصيب واستلام المهام من طرف الغزواني أشفعت سريعا بالإعلان عن تشكيل فريقه الحكومي برئاسة وزيره الأول، إسماعيل بده الشيخ سيديا، القيادي في الأغلبية، والوزير السابق وخبير الاقتصاد القادم حديثا من العمل بمؤسسات دولية.
حكومة ضمت 25 وزيرا رأى المراقبون أنها مثلت محاولة للجمع بين الالتزام بالتوازنات الاجتماعية ومبدأ الكفاءة والخبرة في تسيير القطاعات الوزارية.
وميز الحكومة الجديدة غياب الاهتمام بالتمثيل السياسي في خطوة رآها البعض سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ موريتانيا تكرس توجها جديدا للتعاطي مع الشأن العام.
بيان للحكومة الجديدة بعد أول اجتماع لها برئاسة الغزواني ووزيره الأول شهر أغسطس/آب الماضي، أكد هذا التوجه والمعايير الجديدة في تشكيل الحكومة، مشددا على "أنها حكومة كفاءات مكلفة بالعمل على تنفيذ البرنامج الانتخابي للرئيس، وستمنح الصلاحيات والإمكانيات المناسبة، وسيحمل أعضاؤها المسؤولية الكاملة".
وأوضح البيان نفسه أن الرئيس الغزواني حث الحكومة على المبادرة باتخاذ التدابير الناجحة اللازمة من أجل تحقيق تحسن سريع وملموس في ظروف معيشة المواطنين، خاصة في القطاعات الحيوية الأكثر مساسا بذوي الدخل المحدود.
وكما كسبت الحكومة سريعا رضا جميع الأطراف المشكلة للأغلبية بما فيها الحزب الحاكم، تمكنت الحكومة أيضا بسهولة أكبر من نيل ثقة البرلمان بأغلبية ساحقة بفضل سيطرة هذا الحزب على الأغلبية البرلمانية.
خطوة مثلت فاتحة عهد جديد أمام الحكومة لممارسة مهامها على أرض سياسية مدعمة بأغلبية برلمانية، وشرعية انتخابية شعبية أفرزتها صناديق اقتراع انتخاب الرئيس الغزواني الذي أعلن تشكيل هذه الحكومة ووزيرها الأول.
الحزب الحاكم واستحقاقات المرحلة
وفيما كانت الخطوات تتلاحق لتوطيد بناء مسار مرحلة استلام الغزواني للرئاسة إداريا وفنيا، كان ترتيب البيت الداخلي لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم يجري في مسار موازٍ مانحا القوة والدعم للغزواني ومقدما الذراع السياسية للرئيس الجديد.
الحزب لم يفوّت فرصة لتجديد هذا الدعم للغزواني عبر قياداته وأطره المنتخبة منذ إعلان دعم الرئيس الغزواني إبان مرحلة الترشح، مرورا برضاه عن تشكيل الحكومة، وصولا لاعتبار البرنامج السياسي للغزواني "مرجعيته" الحصرية والوحيدة.
متطلبات مواكبة الغزواني سياسيا من طرف حزب الاتحاد من أجل الجمهورية لم تقتصر على إعلان الدعم في أكثر من مناسبة، بل تضمنت تنظيم لقاءات بين قيادات الحزب والأغلبية لوضع تصور جديد يعزز من انخراط الحزب بشكل أكبر في دعم الغزواني، أو ما سمي بـ"تشكيل ذراع سياسية" للغزواني.
ورغم ما شهدته الفترة الأخيرة من تجاذبات حول المرجعية، على خلفية حضور الرئيس السابق ولد عبدالعزيز لاجتماع لجنة تسيير الحزب، الذي لقي معارضة قوية من قيادات الحزب ومنتخبيه؛ فإن هذا الإجماع ظل منعقدا داخل الحزب على دعم الغزواني.
إجماع ووحدة صف خلف الغزواني سيتعززان أكثر ويتوطدان عند انتخاب الحزب الحاكم لقيادة جديدة خلال المؤتمر العام المنتظر في الـ29 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ليبدأ بذلك مرحلة جديد في مسار دعم الحزب للرئيس الغزواني وتوجها جديدا من الحزب لترتيب بيته الداخلي، وتحديث آليته وفق متطلبات هذه المرحلة، ليظل كما كان الحزب الأكبر في البلاد، والأكثر تمثيلا في البرلمان والمجالس المحلية.
آفاق 2020
يعطي أسلوب التعاطي الرسمي الموريتاني مع القضايا السياسية الراهنة مع نهاية عام 2019 بالساحة السياسية الموريتانية فكرة عن ملامح استشراف آفاق عام 2020 بالنسبة للبلاد.
أسلوب يكشف عن استمرار التوجه خلال 2020 في نهج سياسي يطبعه الهدوء وانفتاح الفرقاء السياسيين تجاه بعضهم بعضا، وكذلك بروز أغلبية سياسية حاكمة تحرص على بقائها متماسكة حول نواتها المركزية المتمثلة في الحزب الحاكم، بالإضافة إلى ميلاد نهج جديد ينحو نحو تحييد التأزيم والصراع السياسي، لصالح الاهتمام أكثر بالسياسات التنموية ومعالجة الاختلالات الاجتماعية.
وهو ما يتجسد في استمرار وتيرة اللقاءات الدورية بين الغزواني وقادة المعارضة، ونهج التشاور معهم وإشراكهم في مختلف القضايا والمستجدات التي تهم الساحة الوطنية.
aXA6IDMuMTMzLjEyOS44IA== جزيرة ام اند امز