بالفيديو.. "دالي كمبة" الموريتانية.. نور البصيرة يقهر ظلام البصر
مواطنون ورثوا الظلمة وعاشوا في الظلام تساعدهم قلة مبصرة في التنقل والقيام بالأعمال الزراعية التي تعد مصدر الدخل الوحيد لهم
قد تربك أزمة صحية بسيطة حياة إنسان، لكن أن تولد بمرض وتعرف أنك ستورثه لأطفالك وأحفادك وتتعايش معه وسط غياب أي آفاق ملموسة نحو إنهاء معاناتك، فإنك في قرية "دالي كمبة" أقصى الشرق الموريتاني.
على بُعد 60 كيلومترا من مدينة تمبدغه الموريتانية، تقع تلك القرية الصغيرة التي يعاني أهلها العمى الوراثي، فيولد أكثر من نصف أطفالها دون أن يروا النور، يكبرون ويلعبون ويتعلمون ويعيشون ويتزوجون وهم كفيفو البصر، ويعاودون الإنجاب وتوريث المرض.
في هذه القرية المنسية التي يقطنها نحو 200 فرد، مواطنون ورثوا الظلمة وعاشوا في الظلام تساعدهم قلة مبصرة في التنقل والقيام بالأعمال الزراعية التي تعد مصدر الدخل الوحيد لهم.
حاجة أهالي القرية للعلاج وإنهاء مأساتهم باتت أكثر إلحاحا جراء المرارات التي يلاقونها، وسط أمنيات لشيوخها بأن يولد جيل جديد من الأحفاد مبصرا بعد عقود من الحرمان لأجيال توارثت المرض وأرهقتها عتمة الظلام.
صبر وأمل
يسرقك الفضول لأن ترى عن كثب كيف يعيش أهل القرية حياتهم، وكيف يتكيفون مع العمى الذي هم فيه، وتسأل نفسك لبرهة، كيف يعرفون الوصول إلى بيوتهم دون خطأ، وكيف يمارسون حياتهم اليومية دون أن تزل قدم أو تتوه الأجساد.
فتتأمل وأنت تسبح الخالق عز وجل الذي يدبر الأمر حين وهب هؤلاء من الحكمة والصبر والحيلة ما يجعلك تشكك في رواية العمى هذه لولا أنك تراها بعينيك.
فلا أحد يمكن أن يقنع السكان هنا بأن يكفوا عن عشقهم لأنفاس الحياة، وعن تمتعهم بألوان تعيش في مخيلتهم حتى وإن لم يشاهدوها، فخلف البصر الضرير ثمة بصيرة مفعمة بالخيال، في هذه الصحراء التي اختارها القدر لهم منفى جغرافياً.
يحفظ أهل القرية القرآن فهو يسكن في جوفهم وعقولهم وألسنتهم، وتراه مجسدا في إيمانهم وتصرفاتهم والطيبة التي تسكن محياهم فيبتسمون لصوتك ويستمعون لصمتك ويبادلون الخير بالخير والنعماء بالشكر.
محمد محمود، شيخ القرية، قال إن الأهالي يعانون المرض منذ مئات السنين ونظرا لكونها منطقة نائية فإنها تفتقر للخدمات الأساسية.
وأضاف، في حديث لـ"العين الإخبارية"، أن 80% من سكان القرية يعانون من أجل الحصول على لقمة العيش، لافتا إلى أنهم يعلقون آمالا كبيرا على تحسن أمورهم الفترة المقبلة وتسليط الضوء على أوضاعهم المتدهورة.
محاولات فاشلة
رئيس الجمعية الأهلية للمكفوفين بالقرية سيدي محمد شياخ أشار إلى وجود محاولات سابقة من طرف وزارة الصحة الموريتانية لعلاج المرض من خلال إخضاع بعض أطفال القرية للعلاج في أحد المراكز الصحية بالعاصمة نواكشوط بالتعاون مع منظمات متخصصة في المجال.
وأضاف شياخ لـ"العين الإخبارية": "الأطباء اكتشفوا عدم وجود أي طريقة لوقف زحف هذا المرض بسبب طابعه الوراثي ليستسلم أهالي القرية لقدرهم ويواصلون التأقلم مع واقعهم وممارسة حياتهم الطبيعية".
الحكومة ترد: نحاول تخفيف معاناتهم
"العين الإخبارية" تواصلت مع السلطات الموريتانية للسؤال عن أوجه الدعم الذي تقدمه الحكومة لأهالي القرية التي أكدت بالفعل مساعدتهم لكن لمواصلة الحياة وليس لإنهاء أزمتهم والبحث عن علاج جذري.
مدير إدارة ذوي الاحتياجات الخاصة بوزارة الشؤون الاجتماعية الموريتانية شيخنا حيدارا قال إن قطاعه يولي عناية خاصة لسكان القرية.
وأضاف حيدارا، لـ"العين الإخبارية"، أن وجود القرية في منطقة نائية وصعبة التضاريس لم يمنع من تواصل الوزارة مع السكان عبر الاتصال المباشر ومن خلال السلطات المحلية التي تتبع لها القرية عبر تقديم المساعدات التموينية بشكل دائم ومحاولة التخفيف من معاناة الإصابة بهذه الظاهرة.
وأشار إلى أن القطاع قدم مؤخرا دفعة من المعدات واللوازم التي تساعد المكفوفين على القيام بمهامهم الضرورية.
ولفت إلى أن أحدث مطالب السكان التي تقدموا بها خلال الأشهر الأخيرة هي إنشاء منظمة محلية خاصة بمكفوفي القرية وهو ما تم، وأنها بدأت بتنسيق الدعم الإنساني الموجه للمتضررين من الظاهرة.
وما يوضح أن واقع القرية قد ذاع صيته، التقينا طالب الدكتوراه الأمريكي ساكب عثمان، القادم من جامعة ميشيجان، ليقدم برفقة زوجته رسالة وبحثا في عالم الإنسانية عن القرية.
الباحث في علم الإنسان "الأنثروبولوجيا" قال لـ"العين الإخبارية": "جئت لأعرف واقع حياتهم وكيف يتعايشون مع معاناتهم وبعض عاداتهم وحياة الموريتانيين بصفة عامة".
كما التقينا سعيد المزروعي، مدير إدارة الإغاثة في الهلال الأحمر الإماراتي، الذي قال إنهم ينفذون رسالة إنسانية عبر مشروع لتعمير القرية بدأوا فيه نهاية 2018 ولن يرحلوا قبل إنهائه حتى لو استمر أكثر من عامين.
وحول الصعوبات التي واجهوها، أوضح أنه من نواكشوط إلى أقرب منطقة من القرية ما يعادل ألف كيلومتر أي نحو 14 إلى 17 ساعة بالسيارة، بالإضافة إلى قلة الإمكانيات بالمنطقة من مواد بناء وغيرها.
ويشمل المشروع إنجاز 40 منزلا مع الملحق والسور الخارجي، ومدرسة من 4 فصول، وعيادة طبية ومسجدا، إضافة إلى بيت تعليمي للحرف اليدوية، وحفر بئر ارتوازية مع خزان مياه يعمل بالطاقة الشمسية.
وأشار إلى أنه تجري أيضا دراسة جميع المناطق المحيطة بالقرية ومعرفة احتياجاتها والعمل على توفيرها.
وقدم شيخ القرية محمد محمود الشكر إلى الإمارات والهلال الأحمر على المشروع الذي اعتبره تكلف كثيرا والصعوبات التي واجهوها خلال الانتقال والمعيشة ونقل المعدات.
ووجهت سلمى ريزفي، محامية تقطن قرية "دالي كمبة"، الشكر للهلال الأحمر الإماراتي، مؤكدة أنه أنشأ مباني كثيرة لسكان دالي كمبة وعمل على مساعدة المكفوفين في القرية.
وقالت إحدى أهالي القرية: "نشكر الهلال الأحمر الإماراتي الذي جاءنا وتعرف على مشاكلنا"، فيما قال آخر: "نشكر الإخوة الإماراتيين على دعمهم الذي نثمنه".
نوع المرض
الباحثة والطبيبة الموريتانية منى الحضرامي قالت إن مرض أغلب سكان "دالي كمبة" نتيجة طفرة جينية في الكروموسوم (الجينات الوراثية)، بدأت في الجيل الثاني من الشجرة الوراثية للعائلة التي ينحدر منها أغلب سكان القرية.
وكشفت الطبيبة الأخصائية في أمراض العيون وصاحبة أول بحث طبي ميداني عن القرية أن التأثر بهذا المرض يبدأ مع دخول الطفل عامه الثاني ويتطور بشكل سريع جدا حتى يكتسح العمى الكلي الأشخاص في مرحلة مبكرة من العمر.
وأوضحت، لـ"العين الإخبارية"، أن عدد الأشخاص المصابين بالمرض يناهز 180 شخصا من بينهم 35 فردا لديهم طفرة العمى الوراثي بشكل كامل والمعروف بمرض "الساد"، فيما تتفاوت درجة الإصابة بالنسبة للبقية.
وأشارت إلى أن الجيل المتأثر حاليا من المرض هو الجيل التاسع لهذه العائلة.
رؤية علمية
جمال عز العرب، خبير طب العيون في مصر، قال إن حالة سكان قرية "دالي كمبة" تعرف بـ"التهاب الشبكية الصباغي"، وهو خلل في تكوين الأوعية التي تغذي خلايا الشبكية، فغالبا تكون ضعيفة ولا تؤدي الدور الطبيعي لها المتمثل في تكوين الصورة ونقلها إلى عصب المخ.
وأوضح عز العرب، في حديث لـ"العين الإخبارية"، أن بعض الأمراض التي تؤثر على شبكية العين وراثية، قائلا إن زواج الأقارب يزيد فرص الإصابة في الجيل الثاني بنسب أكبر، وبالتالي يظهر المرض بقوة في المواليد.
وأظهرت دراسة بحثية في 2017 أن 68% من النساء الموريتانيات تزوجن بأقارب تربطهن بهم علاقة مُباشرة.
وأطلق اسم "الْتِهابُ الشَّبَكِيَّةِ الصِّباغِيّ" (retinitis pigmentosa) قبل أكثر من 100 عام على مرض ظهر كبقع لونية صِبغيّة في قاعدة العين، وكان الاعتقاد السّائد أن الحديث يدور حول التهاب، وقد اتضح خلال القرن الـ20 أن المرض وراثيّ وناتج عن خلل جينيّ.
حلول غير طبية
وعن أبرز الحلول للظاهرة، قال خبير طب العيون إن هذه المشكلة ليس لها علاج طبي ولا جراحي حاليا.
وأضاف: "يجب أن يخضع المرضى لبرنامج متابعة، والعمل على تحسين الإضاءة وتحسين الصورة لكن ليس هناك علاج جذري للمشكلة واستعادة الرؤية مرة أخرى".
وعن البيئة المحيطة، أوضح عز العرب أنها ليست سببا وليس لهذا المرض علاقة بميكروب في الجو أو غيره، فهو مجرد خلل في تكوين الأوعية الخاصة بالشبكية وجزء من المشكلة يزيد بالوراثة وزواج الأقارب.
وأشار إلى ضرورة تقليل زواج الأقارب والعادات القبلية، خصوصا في مثل هذه الحالات، موضحا أن ذلك يقلل من فرص الإصابة لأن المرض هنا يصبح صفة متنحية.
ولا يوجد سبب واحد للعمى الوراثي، ولكن يوجد 350 سببا ذكرتها منظمة "أبحاث منع العمى" بالولايات المتحدة الأمريكية (خاصة) في قاعدة بيانات نشرتها مؤخرا على موقعها الإلكتروني، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، أمراض مثل افتقاد القزحية، والعمى اللوني، وضمور القرنية، والزرق، والقرنية المخروطية، والعمى الليلي، والتهاب الشبكية الصباغي، وورم الشبكية، واعتلال ليبر العصبي البصري الوراثي.
والاتجاه السائد حاليا هو محاولة الوصول إلى علاج جيني لبعض هذه الأمراض، ونجح فريق بحثي أمريكي في دراسة نشرتها دورية "نيتشر كومينيكيشن" في 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي في التعرف على 347 جينا، 86 منها إما راسخة أو متورطة في أمراض العين أو مرتبطة بالرؤية بطريقة أو بأخرى.
وكانت 3 أرباع الجينات التي كشفتها الدراسة " 261 جينا" لم تكن معروفة من قبل، ويمكنها أن تسبب أمراض العين من أي نوع.
أدوية جديدة وبارقة أمل
كريستوفر ميرفي، الأستاذ بقسم طب العيون وعلوم الرؤية بكلية الطب جامعة كاليفورنيا، أحد الباحثين الرئيسيين بالدراسة، قال لـ"العين الإخبارية": "لا يمكن الجزم إلى أي نوع من أمراض العمى الوراثي ينتمي سكان القرية الموريتانية إلا بعد فحص دقيق يتم خلاله إجراء تسلسل للحمض النووي، يمكن من خلاله تحديد أي الجينات مسؤولة عن المرض".
ويعول ميرفي آمالا على أن هذه المعلومات الوراثية التي توصلوا إليها بارقة أمل أمام سكان القرية الموريتانية وغيرهم من المصابين بالعمى الوراثي، إذ قد تساعد في الوصول إلى علاجات جينية جديدة لمرض العين الوراثي.
وكانت هيئة الأغذية والعقاقير الأمريكية وافقت في 2017 على مستحضر لوكستورنا (فورتيجين نيباروفوفيك)، وهو أول علاج جيني للعمى الوراثي الناجم عن عيب في جين الشبكية RPE65.
وتمنع الطفرات في جين (RPE65) إنتاج أحد البروتينات الضرورية للرؤية "بروتين إيزوميروهيدرولاز ريتينويد"، ما يؤدي إلى فقدان البصر والعمى في نهاية المطاف.
وتتيح المادة الفعالة في عقار لوكستورنا (فورتيجين نيبارفوفيك)، وهي فيروس معدل يحتوي على نسخة نشطة من جين (RPE65)، نقل الجين عقب الحقن إلى خلايا الشبكية، وهي الطبقة الموجودة في الجزء الخلفي للعين التي تتعرف على الضوء، ما يتيح للشبكية إنتاج البروتينات الضرورية للرؤية.
وتتم حاليا تجربة علاج جيني آخر يستهدف الجين المسؤول عن مرض يسمى "ليبر" الخلقي، وهو السبب الأكثر شيوعاً لعمى الأطفال الوراثي، ويحدث في نحو 2 إلى 3 من كل 100 ألف ولادة.
وتبدو العين في هذا المرض طبيعية، لكن المرضى يفتقرون إلى الجين الذي يحول الضوء إلى إشارات للدماغ كي يتمكنوا من الرؤية، ولم يتم نشر نتائج الدراسة التي أجريت على هذا العلاج، كي يتم اعتماده كدواء لهذا الاعتلال.
وأضاف ميرفي: "تبقى فرص علاج سكان القرية الموريتانية رهنا بالتشخيص أولا، فإذا كانت حالتهم تتوافق مع العلاجات الجينية الجديدة يمكنهم الاستفادة من هذا التطور، وإذا لم تكن متوافقة فقد تقود دراستنا الأخيرة التي اكتشفنا من خلالها 261 جينا جديدا إلى علاج في المستقبل".
ويعاني من العمى نحو 50 ألف شخص في موريتانيا من مجموع عدد سكان البلاد البالغ نحو 4 ملايين نسمة.
وتعمل وزارة الصحة، ممثلة في البرنامج الوطني لمكافحة العمى، على توعية السكان حول الأمراض المؤدية إلى العمى إلا أنها تفتقر إلى انتشار مراكز طب العيون والعلاجات الحديثة، خاصة في المناطق النائية التي تتحدث تقارير أن الأرقام بها بعيدة جداً عن الإحصائيات الرسمية.