ومما لا شك به أن ذكرى المولد النبوي تحمل في طياتها حِكما ورسائل ربانية، لا يخفت نورها بل يزداد يوما بعد يوم.
شقّ الضياء طريقه ليهمس في أذن الكون مبشرا بانتهاء حلكة الكراهية، ناثرا عبق الرحمات والسلام والتكاتف للبشرية، بمولد حامل مشعل السلام، لينير به كل بقعة على البسيطة، دون استثناء للزمان أو المكان، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل، وُلد الهدى محمد المفضَّل، محمود الخصال المرضيُّ الأفعال. إن ميلاد النبي العدنان ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ورسالته العظيمة كانتا أعظم ما شهده الوجود، فهو ميلاد الإقرار والاعتراف والمناداة بحقوق البشرية، ومحطة السعي الدؤوب لتحقيق سعادتها وسلامها، فحدث مولده العظيم يتعدى أن يحدد فقط بـ «ذكرى مولد»، فهو يعني وجوب التمعن والتفكر والتعمق، وللأسف انشغل عن ذلك البعض بالبحث حول المشروعية لإحياء ذكرى مولد المصطفى، دون التنبه لأهميتها، وفضلا عن أن جمعا من علماء المسلمين الأفاضل أجمعوا على استحسانه، فيرى العلاّمة ابن بيه أن مَن احتفل بالمولد النبوي بسرد سيرته العطرة، والتذكير بمناقبه احتفالا غير مُلتَبِس، حبا للنبي صلى الله عليه وسلم فَفِعلُهُ لا بأس به وهو مأجور، إضافة لرسالة السيوطي التي أكدت ذلك بالاستعانة بالصحيح من الأحاديث والتي حملت اسم «حُسن المقصد في عمل المولد»، وتأتي ضرورة إحياء هذه الذكرى لذلك الحدث الاستثنائي، كرسالة تصحيح وتعريف وتثقيف لمن لم يعرف سيرة النبي الكريم، فلا تقتصر على المحيط الإسلامي، بل تمتد لتكون دعوة تبادل معرفي وإعلان محبة وود وسلام مع إخواننا من الديانات الأخرى.
هنالك دلائل مشرقة تلوح في أفقنا العربي، عاكسة المشاعر الصادقة التي يكنها المسلمون لسيدنا ونبينا محمد القدوة الحسنة التي نفاخر بها بقاع الأرض، مبشرة بعلو صوت السلام فوق ترهات التطرف والكراهية.
ومما لا شك به أن ذكرى المولد النبوي تحمل في طياتها حِكما ورسائل ربانية، لا يخفت نورها بل يزداد يوما بعد يوم، وبخاصة في ظل الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية من محاولات وتحاملات تستهدف صورتها السمحة ورسالتها النقية، من خلال حلقات الصراع بين التطرفات السياسية العصبية التي تتخفى زورا وراء الدين، فتغمغم وتجور على المنارة الإسلامية التي نشرت شعاعها بالأعمال والإنجازات الإسلامية المقدمة في شتى بقاع الأرض، ابتداء من المنجزات التاريخية، ووصولا للمناصب «الثقيلة»، التي يتربع عليها شخصيات إسلامية بارزة وفاعلة في مشرق الأرض ومغربها بلا تطرف أو غلو.
وتأتي هذه الذكرى العظيمة تأكيدا وتذكيرا بالرسالة التي يحمل وسامها كل مسلم ومسلمة، دعوةً للسير على خطى نبي السلام، ومناداة بأخوة احتضنت تحت جناحها البشرية جمعاء، وترحيبا بالآخر بل والسعي الدؤوب لتحقيق سبل العيش المشترك معه، فهذا ما تأمرنا به الرسالة المحمدية، لتشدد بالسياق ذاته على نبذ التفرقة والكراهية وتأمر بالوحدة والتكاتف، مستنكرة جعل أصول القومية أو الفكرية أساسا للتمايز والتفاخر، أو مدعاة للجور على حقوق الخلق، كما عكست لنا رياض السيرة النبوية جل ما يحمله دين المسلمين، ففي أوج القوة والانتصار والعزة التي جناها المصطفى لصفوف المسلمين، دخل لمكة المكرمة مواجها أهلها الذين آذوه و كانوا سببا في هجرته عن وطنه الذي أحبه، ليقابل من نعتوه بـ«الأبتر» و ـ حاشاه أن يكون ـ بمقولة «اذهبوا فأنتم الطُلَقاء»، فهل يُعقَل أن يكون دين محمد رسول الله داعيا للصور الجائرة المتطرفة التي يخدمها خونة الإنسانية؟ وتجديدا للعهد الذي ذكره العالم المجدد الشيخ عبدالله بن بيه إذ قال:
(وجدد عهود الوصل فهي أكيدة.. وندد بعهد البين فهو كلوحُ
وقف بربوع كان يغدو على البرى.. بها داعيا خير الورى ويروح
هو النعمة المهداة للناس.. أُرسِلَت فأنقذهم والطائحات تطيحُ)
ولأن السطور والكراريس أقل من أن تجزي ما قدمه صاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء الممدود، كان لزاما علينا أن نسطر ذلك بأفعالنا، فتكون مرآة سنته الطاهرة. ولا تقتصر على تشييد خيم الاحتفالات والمجالس والشعارات وتوزيع الحلوى، بل تسخيرها لتكون هذه الأماكن محطات شغوفة لإعادة التفكير والصياغة، والإعلان العالمي عن تجديد وترسيخ عهد المحبة والتآخي، فعلى هذه الأمة أن تثبت مسؤوليتها لتكون «خير أمة أخرجت للناس»، إذ لا تثبت استحقاق خيريتها دون أن تكون أمة مؤمنة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وقوفا في وجه كل ما قد يشوب صفاء العقيدة الإسلامية.
ووقوفا على ذلك، فإن هنالك دلائل مشرقة تلوح في أفقنا العربي، عاكسة المشاعر الصادقة التي يُكنُّها المسلمون لسيدنا ونبينا محمد القدوة الحسنة التي نفاخر بها بقاع الأرض، مبشرة بعلو صوت السلام فوق ترهات التطرف والكراهية، فحينما تُعقَدُ العزيمة، وتُشحَذٌ الهمم مشحونة بالإيمان وحب الأوطان، سنعمل متكاتفين متآخين لتحقيق ذلك، ومن أرفع الأمثلة على ذلك أشعة المحبة التي انبعثت منذ أيام قليلة من عاصمة الإمارات العزيزة، مشاركة بـ«المهرجان الوطني للتسامح»، الذي أعلنته كدعوة للجاليات كافة على الأراضي الإماراتية، التي رسمت أبهى الصور الفسيفسائية بأكثر من 200 جنسية تحتضنها، عاكسة المعاني الجوهرية للتعايش والمحبة التي أوصانا بها سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومستكملة بمسيرة شيوخها الكِرام، وحكمتهم، ودعمهم المتواصل لكل ما يحقق الوصول إلى القمة في إعمال العقل والإصلاح والوئام العالمي، منتهجة هدي الحبيب الذي لم يقف على العظات القولية، بل صيرها لملكات راسخة وأفعال معاشة.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة