فتح الحدود الافتراضية واختراقها من طرف كل الاتجاهات، خلق أحلاما لا حدود لها، وطموحات مشروعة بإمكانية تحقيق المساواة وكرامة العيش.
أشرقت أنوار العولمة على عالمنا وغمر نورها ودفئها أرجاء المعمورة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي.
توسع الحلم واتسعت آفاقه، وسهل اكتشاف "العالم الجديد" وهنا أقصد العالم كاملاً التواصل بين سكانه وخاصة الشباب منهم.
هؤلاء الهاربون نحو الماء، فارون من نيران الحروب وما خلفته من دمار في بلدانهم.
وازدياد الهجرة نحو أوروبا من السواحل التونسية دوافعها البحث عن الأمان وحماية الحياة وليس عن حياة أفضل كما كانت الهجرة في الماضي
وهذا ما فتح قنوات للتواصل وتطلع للتعارف وتقارب الثقافات وتجاوز الخلافات والاختلافات.
لكن فتح الحدود الافتراضية واختراقها من طرف كل الاتجاهات، خلق أحلاماً لا حدود لها، وطموحات مشروعة بإمكانية تحقيق المساواة وكرامة العيش وحق الحياة.
لكن الأحلام لم تستمر كثيراً قبل الصدمة....
صدمة اكتشاف أن الحقوق مشروعة لجزء فقط من العالم وأن البقية مكبلون، ولا حق لهم قانونياً في تجاوز حدودهم الجغرافية، والتي في المقابل مفتوحة بلا شروط لـ"أصدقائهم " في الجزء الآخر من العالم.
وإليكم مثال قريب رهيب على الواقع الدولي العادل.
أعلنت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، الإثنين الماضي، عن مقتل أكثر من ٦٠ شخصاً بعد غرق سفينة مكتظة بالمهاجرين بعد انطلاقها من السواحل التونسية وغرقها قبالة جزيرة قرقنة.
ويعتبر هذا الحادث من أسوأ حوادث غرق المهاجرين خلال سنوات، وحوالي ٥٠ من الغرقى كانوا تونسيين.
وقالت المنظمة الدولية للهجرة إن ١٩١٠ مهاجرين تونسيين وصلوا إلى السواحل الإيطالية خلال الأربعة أشهر الأولى من العام الجاري ٢٠١٨، مقابل ٢٣١ فقط في نفس الفترة من العام الماضي.
وأعلن رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد عن إقالة وزير الداخلية لطفي براهم الأربعاء الماضي على خلفية حادث الغرق.
وانتقد الشاهد عدم انتباه القوات الأمنية لتجمع ١٨٠ مهاجراً كانوا يحاولون الهروب من شبح البطالة والأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها تونس.
وقد سبق وأن أكد وزير الداخلية الإيطالي الجديد ماتيو سالفيني أن بلاده لن تكون "مخيم أوروبا للاجئين".
ووعد باتخاذ إجراءات صارمة لتقليص عدد اللاجئين وإعادة من وصلوا بالفعل.
ويثير مضمون الخبر المأساوي العديد من المسائل البالغة الخطورة، والتي تحتاج إلى حلول عاجلة وأخرى عميقة.
المسألة الأولى هي الدور الذي تلعبه المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، والذي من المفترض أن يكون إنسانياً بالدرجة الأولى.
لكن ما رأيناه ونراه في السنوات الأخيرة هو اقتصار هذا الدور على التعامل مع الحوادث عبر تصريحات أو تسهيل تقديم إغاثات تقدمها منظمات أو دول، أو دور تشريعي لا يساعد بالشكل المطلوب على حل جذور الأزمة.
المسألة الثانية هي المسألة الأمنية، حيث ركز هذا الحادث على الجانب الأمني واعتبر إخلالاً أمنياً بالأساس مما دفع رئيس الوزراء التونسي إلى الإسراع بإقالة وزير داخليته.
ومن الجانب الآخر التزام وزير الداخلية الإيطالي الجديد بالتصدي للمهاجرين اللاجئين وإعادتهم إلى بلدانهم.
لكن ما حاول المسؤولون التغاضي عنه في هذا الحادث المفجع، والذي نأخذه كمثال وليس كمحور لكلامنا هو التحدث عن المشاكل الرئيسية التي تدفع بهؤلاء الشباب للمخاطرة بحياتهم وحياة أبنائهم وزوجاتهم ومن يحبون.
وفي غالب الأحيان فهؤلاء الهاربون نحو الماء، فارون من نيران الحروب وما خلفته من دمار في بلدانهم.
وازدياد الهجرة نحو أوروبا من السواحل التونسية دوافعها البحث عن الأمان وحماية الحياة وليس عن حياة أفضل كما كانت الهجرة في الماضي، هذا بالنسبة للوافدين من ليبيا.
أما بالنسبة للشباب التونسي فغالب الحاجة والفقر هما الأسباب وراء الهجرة في سبيل البحث عن العمل وبالتالي عن الكرامة الإنسانية وهي الحق الأدنى لأي إنسان .
وهنا تثار مسألة "الإنسان" وحقوق الإنسان وكل التشريعات التي كتبت وصودق عليها.
ما نراه اليوم فعلاً مخز وعار على الإنسانية والمنظمات الدولية والمسؤولين كل من موقعه، فبدل تحمل مسؤولياتهم ومحاولة مساعدة الأجيال التي وجدت نفسها ضحية لأوضاع لا يد لهم فيهم، نراهم وبكل أسف يشددون العقوبات على المهاجرين، وتبدأ العقوبات بداية من إعلان النية، فمن يعلن نية الهجرة "غير الشرعية" يتعرض للتحقيق والضغط وقد يصل الأمر إلى السجن.
ومن يحاول الكرة وينجو من الموت فمصيره عقاب قانوني، القانون اليوم يعاقب من يحلم بأن يعيش كريماً، وأن يبحث عن كرامته حيث لم يجدها رغم أنه غامر بروحه.
وأوروبا تغلق أبوابها في وجه من يقصدوها بحثاً عن الأمل بعد أن فتحت الأبواب على مصراعيها لأجدادهم حينما احتاجت أياديهم وعقولهم للبناء.
ويعامل المهاجرون الوافدون وكأنهم وباء، وهم الذين أبواب بلدانهم مفتوحة على مصراعيها لكل غربي ويقابل بالماء والود والورد.
ما ذنب شباب يبحثون فقط عن الحياة، هم لم يصنعوا الحروب، ولا الفشل في اقتصاد بلدانهم، من يستحق العقاب هنا إذا ما بحثنا عن تحقيق العدالة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة