كانت اللحظة تاريخية بكل ما في ذلك من معان، أي أنها اللحظة الفارقة في حياة الأمم ما بين مستقبل وآخر
لم يكن يوم 30 يونيو 2013 يوما عاديا لا في تاريخ مصر حيث نشبت الثورة، ولا في تاريخ العرب حيث كان بداية عكس تيار من الفوضى والدمار ومنعه من الوصول إلى دول عربية جديدة، وفي أعقاب ذلك بداية تيار من الإصلاح والتغيير تشكل الآن رصيدا ليس فقط للصمود في وجه تيارات الفوضوية والأصولية الراديكالية الدينية الإرهابية؛ وإنما أيضا للاندراج في العالم المعاصر والسباق معه نحو التقدم.
قصة اليوم سبقتها ثلاث سنوات حاكمة عرفها الغرب تحت اسم "الربيع العربي" في ذلك الوقت، وتدريجيا فإن التسمية ذهبت إلى التلاشي بعد أن كان الحصاد مروعا، ولكنها ظلت مستمرة رومانسيا في أذهان بعض العرب علي أساس أنها كانت السبيل إلى "الديمقراطية" و"التقدم" المصاحب لها. كانت البداية كما نعرف في تونس، ومن بعدها كانت مصر، ولم يلبث أن امتد الحريق إلى سوريا وليبيا واليمن.
كانت البداية دائما "حراكا" من الشباب الساخط عرف طريقه إلى وسائل التواصل الاجتماعي ومنها إلى الشارع طارحا "إسقاط النظام" ولكنها لم تقترح نظاما بدلا عنه، ولا الطريق الذي يصل بين النظام الساقط والنظام الذي لم يقترحه "الثوار" بعد. ولم تستمر الحيرة طويلا، فقد تولت حركة الإخوان المسلمين وتوابعها من منظمات راديكالية أخرى الثورات جميعها سواء كانت في الشوارع والميادين أو باستخدام أشكال مختلفة من العنف والإرهاب مشعلا الحرائق والاغتيال لمؤسسات الدولة والمؤسسات الاقتصادية ودور العبادة.
قصة اليوم سبقتها ثلاث سنوات حاكمة عرفها الغرب تحت اسم "الربيع العربي" في ذلك الوقت، وتدريجيا فإن التسمية ذهبت إلى التلاشي بعد أن كان الحصاد مروعا.
في مصر كان التنظيم الأم لحركة الإخوان في المنطقة والعالم، وفيها استطاع الوصول إلى السلطة والإمساك بتلابيبها ووضع رئيسا في قصر الرئاسة. لم يكن ذلك انقلابا على الدولة المدنية في مصر فقط، أو عكسا لتيار الحداثة الذي بدأ في مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر، وإنما كان إيذانا بانقلاب كبير في أوضاع المنطقة كلها، بل وربما العالم كله. وبالفعل وعلى مدى ثلاثة سنوات فإن انقلاب الإخوان لم يكن في مصر فقط، وإنما أخذ أشكال حروب أهلية في سوريا وليبيا واليمن وكاد يفعلها في البحرين لولا التدخل الحكيم لدول مجلس التعاون الخليجي.
كانت الموجة عالية للغاية حتى تحرك الشعب المصري في 30 يونيو 2013 رافضا حكم الإخوان، ولم تكن اللحظة مصرية فقط وإنما لحظة عربية أيضا. فما حدث أن لحظة الثورة المصرية وجدت حالة عاتية من الرفض الغربي أخذ يعبر عنه في محاولات لعزل مصر وحصارها اقتصاديا ومعنويا. رد الفعل الأوروبي والأمريكي كان مدهشا حينما جرت المناظرة الأولى بين الساسة والمثقفين والكتاب والإعلاميين في واشنطن وعواصم أوروبية هامة حول عما إذا كان الحدث المصري هو ثورة شعبية أو انقلاب عسكري.
كان الانحياز واضحا منذ اللحظة الأولى لفكرة "الانقلاب" ومن بعده سار مجرى الحديث عن الكيفية التي يتم بها إعادة المسيرة المصرية إلى الوراء بالتهديد والوعيد تارة، وبالإغراء والغواية تارة أخري. وسرعان ما جاءت المناظرة الثانية مع تطور الأحداث التي لخصها ما عرف باعتصامي رابعة والنهضة؛ ورغم ما كان معروفا أن كلاهما ليس القصة كلها، وأنهما كانا مجرد قاعدتين للحركة وشل طاقة الدولة ومنع خريطة الطريق إلى الديموقراطية من التحقق بوسائل شتى من العنف وصلت إلى الاستعانة بعناصر السلفية الجهادية الإرهابية التي تتلامس أكتافها مع التنظيمات الإرهابية المعروفة في العالم وتنظيم القاعدة في مقدمتها.
ومرة أخرى كان الموقف الأوروبي والأمريكي يسيران في اتجاه تأييد مواقف الجماعة التي بدأت تلعب بالورقة الديموقراطية من خلال الحقائق المقلوبة لشرعية تجري في ظل دستور ثيوقراطي، وانتخابات تجري لمرة واحدة. لم يكن الأمر يحتاج الكثير في التجربة الغربية التاريخية لفهم أن الإخوان المسلمين يعيدون التجربة الألمانية والإيطالية الفاشية والنازية بحذافيرها. ومع ذلك كان الرأي الذي ذاع عبر المحيط الأطلنطي وعلى اتساعه أن "الصندوق" قال كلمته وأنه لا يكفي الاعتراض الشعبي عليه، وأنه كان على المصريين أن يمضوا في الطريق إلى آخره حتى ولو لم يكن هناك سبيل بعد ذلك إلى عودة أو تصحيح أو ديمقراطية.
ضع المناظرة الأولى التي قادت إلى الانقلاب، فوق المناظرة الثانية التي انتهت إلى أن عودة الإخوان من خلال التفاوض والشمول inclusiveness هو السبيل الأمثل إلى الطريق السياسي الذي تعرفه البلدان المتحضرة! ولم يكن الأمر منطقا يبنى وإنما بدأ معه العقاب والتهديد بما هو أكثر؛ فغابت طائرات وأسلحة آن أوان تسليمها، وخرجت كلمات وتعبيرات لا يليق استخدامها بين دول قالت لسنوات أن علاقتها بمصر "استراتيجية".
التعامل السياسي المصري مع هذا الموقف أمر ومحاولة فهمه أمر آخر، وهذا هو ما يهمنا في هذا المقام لأنه لا يمكن بناء تعامل ناجح دون فهم الكيفية التي انقلبت فيها دول "ديموقراطية" ضد "الإرادة الشعبية"، والسبل التي وصلت بها عواصم مدنية وليبرالية سقطت أبراجها ونسفت أنفاق مواصلاتها إلى الوقوف إلى جانب الإرهاب ودعوة مجلس الأمن "للتشاور" حول الحالة المصرية. ورغم تعدد الكلمات والتعبيرات فقد بدا باراك أوباما وإنجيلا ميركل تحديدا وكأن كرامتهم الشخصية جرحت لأن مصر تنجح فيما لم ينجح فيه الألمان عام 1933 ساعة صعود النازية والإيرانيين عام 1979 وقت صعود نظام دولة الفقيه.
كانت اللحظة تاريخية بكل ما في ذلك من معان، أي أنها اللحظة الفارقة في حياة الأمم ما بين مستقبل وآخر، وكان الانحياز من قبل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومن بعدهما البحرين والكويت ليس فقط إلى جانب مصر وثورتها، وإنما إلى جانب مستقبل آخر للمنطقة العربية غير ذلك الذي يتمناه لها "الإخوان المسلمون" ومناصروهم في قطر وتركيا وإيران.
أخذ التحرك العربي ثلاثة أشكال: أولها العون السياسي والدبلوماسي على المستوى المباشر بالإعلان والتصريح بالتأييد لمصر وثورتها، وبالخروج إلى العالم أجمع والاتصال معه على مدار الساعة أن ما يحدث من ضرر لمصر يمس الدول العربية جميعها. ولا يزال التاريخ يذكر تلك التحركات الدبلوماسية للأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي رحمه الله، والقيادة في دولة الإمارات العربية التي لم تترك عاصمة في العالم، ولا قادة دون زيارة أو اتصال.
وثانيها كان تدفق العون العربي ماليا واقتصاديا على مصر بعد أن تركها الإخوان ركاما حتى وقفت على أقدامها، فرجعت مصر من التراجع الاقتصادي إلى النمو الاقتصادي، ومن ضعف الجنيه المصري إلى قوته. وثالثها أن وقف تيار الإخوان في مصر كان إيذانا بتراجع تيار كامل كاد يكتسح المنطقة كلها، ومن ثم بات ضروريا إجراء الإصلاح الشامل للدولة الوطنية العربية حتى تكون قادرة على المنافسة العالمية والمواجهة مع التيار الذي يأخذ الدولة العربية إلى الخلف.
وطوال بقية العقد المنصرم فإن حلف يونيو العربي ظل صامدا في مواجهة تيار الإخوان وحلفائه في الداخل والخارج، وكان الثمن المدفوع فيه من الأرواح والجرحى والمدن المدمرة. وما المعارك التي نواجهها الآن مع إيران وتركيا في العراق وسوريا وليبيا إلا من توابع تلك المرحلة ونتائجها. لقد كانت لحظة "عربية" بحق أنقذت مصر ودولا عربية أخرى من الفوضى والتراجع الحضاري؛ ولكن هذه اللحظة لا تزال مستمرة بما تلاها من مواجهات، وما ترتب عليها من إصلاحات تجري على قدم وساق وشواهدها في مصر والسعودية والإمارات جلية ساطعة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة