الصواريخ الباليستية.. نفوذ المال والسياسة يهيمن على القرار العسكري
حين يأتي ذكر الاستراتيجية النووية الأمريكية فإن ما يدور في الأذهان هو مداولات جادة بين كبار المسؤولين الذين يرتدون الزي العسكري ويعرفون جيدا قدرات الخصم.
وفي بعض الأحيان يتشابه الواقع مع ذلك التصور، لكن في الكثير من الحالات لعبت المصالح التجارية والسياسية دورا أكبر في تشكيل الاستراتيجية النووية.
وأحدث مثال على ذلك هو برنامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الجديد التابع للقوات الجوية الأمريكية (سنتينل) الذي أقرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) الاستمرار فيه، وذلك على الرغم من الشكوك حول قيمته الاستراتيجية إلى جانب تكلفته التي تبلغ 141 مليار دولار، إضافة إلى تأخير الجدول الزمني لعدة سنوات، وذلك وفقا لما ذكره موقع "ريسبونسيبل ستيت كرافت".
وذكر الموقع أنه قبل أسبوعين فقط، قال الفريق أول أندرو جبارا من القوات الجوية الأمريكية في معهد ميتشل إن القوات "ستعيد هيكلتها لمواكبة زيادة التكاليف"، ومع ذلك فلا يوجد أي جهد لإبطاء وتيرة العمل في برنامج الصواريخ الباليستية الجديد و"يمكن أن يستمر العمل بموجب العقد القائم اليوم".
وفي الولايات المتحدة دائما ما كانت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمال والسياسة، وذلك منذ نشرها للمرة الأولى في ستينيات القرن العشرين، إذ شهدت المجتمعات الريفية في الغرب الأوسط تغيرا في ثرواتها مع وصول هذه الأسلحة للدمار الشامل.
وقال مات كوردا، المدير المساعد لمشروع المعلومات النووية في اتحاد العلماء الأمريكيين، إن سكان المجتمعات المحلية التي عانت من التجاهل لفترات طويلة، شاهدوا الإدارة الأمريكية وهي تدفع المال لرصف طرقهم الترابية، وإعادة بناء جسورهم، وتحديث خطوط الهاتف والكهرباء لتلبية احتياجات قواعد الصواريخ، فبالنسبة لهم جلبت هذه الصواريخ النووية المال والوظائف والتحديث.
ومنذ نهاية الحرب الباردة، مارس الساسة من الدول التي تمتلك صواريخ باليستية عابرة للقارات ضغوطاً شديدة للحفاظ على قواعد الصواريخ هذه.
ومع اختفاء التهديد القائم على هجوم نووي مفاجئ يشنه الاتحاد السوفياتي السابق، اختفت الحاجة إلى الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التي تهدف إلى توجيه ضربة استباقية مدمرة للقوات السوفياتية.
وعندما فكرت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في القضاء على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات من خلال عملية مراجعة للموقف النووي، مارست مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الضغوط لإسقاط هذه القضية.
وبالتزامن مع ذلك، شكل أعضاء مجلس الشيوخ من الولايات التي تستضيف الصواريخ الباليستية العابرة للقارات وهي ولايات مونتانا، ووايومنغ، وداكوتا الشمالية، ويوتا، تحالفا باسم "تحالف مجلس الشيوخ للصواريخ الباليستية العابرة للقارات"، بهدف الحفاظ على الصواريخ.
ويمكن إرجاع دور التحالف إلى عام 2006، حين أعلنت القوات الجوية أن ترسانة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات من طراز "مينوتمان 3" التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة يمكن أن تستمر حتى عام 2040.
لكن التحالف نجح في إجراء تعديل على قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2007، بهدف تقليص عمر هذه الصواريخ 10 سنوات، وبالتالي استخدم أعضاء التحالف نفوذهم من أجل تسريع تطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات بديلة، الأمر الذي ضمن استمرار الفوائد التي تعود على ولايتهم لفترة أطول قد تمتد إلى عقود.
كما أضاف أعضاء التحالف تدابير أخرى إلى قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2007، بهدف عرقلة خطة الرئيس الأسبق جورج بوش لتقليص الصواريخ الباليستية العابرة للقارات 50 صاروخاً.
وفي عام 2009، عندما كان الرئيس الأسبق باراك أوباما ينهي المفاوضات مع روسيا بشأن معاهدة ستارت الجديدة، كان أعضاء التحالف قلقين بشأن تأثير المعاهدة على صواريخهم.
وباستغلال أصواتهم في التصديق على المعاهدة، نجح أعضاء التحالف في الضغط على أوباما للحد من تخفيض الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
وفي عام 2013، منع التحالف البنتاغون من إجراء دراسة حول الأثر البيئي للقضاء على الصواريخ، كما نجح في الضغط على البنتاغون للتخلي عن فكرة خفض الصواريخ عندما خلصت مراجعة بين الوكالات إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تحافظ على رادعها الاستراتيجي مع خفض قوة الصواريخ.
كما نجح التحالف في وضع بند في قانون الدفاع الوطني للعام المالي 2017 يحظر على القوات الجوية نشر أقل من 400 صاروخ باليستي عابر للقارات، وهو البند الذي جرى تضمينه في قانون الدفاع الوطني كل عام منذ ذلك الحين.
وخلال السنوات الأخيرة، مارس التحالف وبعض الشركات ضغوطا شديدة لدعم برنامج سنتينل ففي 2019، ساعد حلفاء الائتلاف في مجلس النواب، إضافة إلى شركة نورثروب جرومان على إنهاء تعديل على قانون الدفاع الوطني للسنة المالية 2020 كان سيتطلب دراسة حول إطالة عمر صاروخ مينيوتمان، وبعدها أرسل التحالف خطابًا لوزير الدفاع حول مخاوفه بشأن صواريخ بديلة لمينيوتمان.
وساهمت شركة نورثروب غرومان والشركات التابعة لها بمبلغ 1.2 مليون دولار لأعضاء التحالف بين عامي 2012 و2020 وأكثر من 15 مليون دولار لأعضاء اللجان الفرعية في مجلسي الشيوخ والنواب المعنية بالدفاع.
والعام الماضي، قدم أعضاء التحالف الجمهوريون مثل ستيف داينز من مونتانا، وجون باراسو وسينثيا لوميس من وايومنغ، ومايك لي وميت رومني من يوتا "قانون الردع النووي سنتينل لعام 2023"، الذي يسمح للقوات الجوية الدخول في عقود شراء متعددة السنوات لصواريخ سنتينل.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، أخطرت القوات الجوية الكونغرس أن برنامج سنتينل سيتكلف 37% أكثر من المتوقع، وسيستغرق عامين على الأقل أطول من التقديرات مما يعرضه لخطر الإلغاء.
ووجدت المراجعة الداخلية التي أجراها البنتاغون أن التكلفة ستكون أعلى مما ذكر سابقًا لتصل إلى نحو 141 مليار دولار، بزيادة 81% عن تقديرات عام 2020 ومع ذلك صادقت وزارة الدفاع مؤخرا على استمرار البرنامج.
وبجانب التكلفة المفرطة، لا يوجد مبرر منطقي للصواريخ الباليستية العابرة للقارات في حقبة ما بعد الحرب الباردة، إذ تبدو عديمة الفائدة من الناحية العملية، نظرا لأن استهداف الصين أو كوريا الشمالية يتطلب التحليق فوق روسيا التي قد تعتبره هجوما عليها، مما يعرض الصواريخ لخطر هجوم استباقي.
aXA6IDMuMTQ1LjE2NC40NyA=
جزيرة ام اند امز