إلى أين تمضي حياة الحوار والجوار في أوروبا؟ لا سيما بين المسلمين سواء كانوا من أصل البلاد أو الوافدين عليها، وبين بقية التيارات المجتمعية.
إلى أين تمضي حياة الحوار والجوار في أوروبا؟ لا سيما بين المسلمين سواء كانوا من أصل البلاد أو الوافدين عليها، وبين بقية التيارات المجتمعية التي أصابتها تشققات كادت أن تصل إلى شروخ في الجسد الأوروبي.
من الواضح أن ذلك يعود إلى عناصر كثيرة؛ منها ما هو اقتصادي، ومنها اجتماعي. لقد وجدت الجماعات اليمينية ذات الميول المتشددة فرصة في تحميل الإسلام والمسلمين وزر كل الأخطاء التي جرت بها المقادير، وبات المسلم -لسوء الحظ- في نظر الكثيرين إرهابيا، أو مشروعَ إرهابيٍّ محتمل في أفضل الأحوال، وبين هذا وذاك بدا وكأن هناك من يسعى لتأكيد نبوءات أبوكريفية منحولة تسعى لتحقيق ذاتها بذاتها. إنها تنبؤات مكذوبة من عينة التصنيف المانوي للبشر بين أخيار وأشرار بالمطلق، وبرؤية لا تقبل فلسفة الحلول التقريبية، والخطو معا في طريق خلق نموذج لحياة مشتركة، مهما كان الاختلاف عرقيا أو جنسيا، دينيا أو مذهبيا، إلى آخر تصنيفات البشر التي ما أنزل الله بها من سلطان.
أغلب الظن أن مبادرة "زر مسجدي" تأتي في هذا الإطار، لتلبي الحاجة الملحة لدى كثير من البريطانيين والأوروبيين للتعرف على المسلمين والإسلام، ولتصحيح النظرة تجاه المسلمين خاصة في ظل المد المغلوط إعلاميا من أخبار وصور، يُسهم بعض أتباع الإفك في ترويجها
ما الحل إذن في مواجهة تلك القارعة؟ هل يكمن الحل في الانزواء أو الانعزال؟ أم أنه في فتح مساقات للتعايش الإنساني المشترك بل الواحد، عبر إزالة الجدران التي تمنع من التلاقي بالآخر بداية، وتعوق فرحة اللقاء ثانية؟
وسط الأنباء المؤلمة التي تجري بها الأحداث في العاصمة البريطانية لندن، ومع رسائل الكراهية التي تنفجر تارة، ويبطل مفعولها المادي تارة أخرى، وإن تركت تأثيرات وندوبا في العقول والأفئدة عند الإنجليز بشكل عام، لا تخلو الساحة البريطانية من محاولات جديرة بالتحية والإشارة إليها، والنظر إليها من أجل تعميم الاستفادة منها.
من بين تلك المبادرات، يأتي الحديث عن مبادرة "زر مسجدي"، التي تقام مرة كل عام في بريطانيا منذ عام 2015، وهناك بلا أدنى شك خلفية لهذا التوقيت، فقد كان مواكبا لتعالي أصوات "الفئة الضالة"، التي سعت من أجل ترويع الآمنين تحت لواء إقامة الخلافة المزعومة، التي لم ينل العالمان العربي والإسلامي منها إلا البكاء وصرير الأسنان.
إن طرح القضايا المصيرية يبدأ بالذات ومن عند حدود المرء، لا من جهة الآخرين. وأنت في الغرب بنوع خاص إن لم تقم برسم صورتك كما تريد، وعلى ما يتوافق مع مصالحك وصالحك في الحال والاستقبال، لابد أن يسعى الآخر لرسم صورة لك لا يمكن أن تكون صحيحة بالضرورة، ولا تخدم أهدافك واستراتيجياتك المنشودة، بل سيعمل جاهدا على تعظيم منافعه خصما من أرباحك.
ينطبق الأمر هنا على مبادرة زر مسجدي، التي هي قيمة مضافة بشكل إيجابي للمسلمين في داخل بريطانيا. تصب هذه المبادرة في إطار أوسع هو الحوار والجوار، وتعميق المعرفة بالآخر من الأديان والثقافات المختلفة، من شرق البسيطة إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.
"زر مسجدي" مبادرة فعالة يشارك فيها نحو 250 مسجدا تستقبل بترحاب كل من يعيش على أرض بريطانيا مهما كانت معتقداته، بل يجري إشراك الزائرين في أنشطة تهدف إلى توسيع معرفتهم، وفتح أعينهم على ماهية الإسلام ومن هم المسلمون، عطفا على المقاصد العلوية من المساجد الإسلامية سواء في بريطانيا، أو في غيرها من دول العالم.
إن مبادرة زر مسجدي ليست من مبادرات العلاقة العامة، ذلك أن المخزون الحضاري والعربي والإسلامي يبقى عنصرا فاعلا في تلك المبادرة، ولا سيما أن الأنشطة التي تجري ضمن فعاليات تلك المبادرة تتضمن عرض نماذج من الفنون الإسلامية، ومن النصوص الدينية، بالإضافة إلى شرح ملامح ومعالم تلك الحضارة التي شارك في صنعها عبر أربعة عشر قرنا مسيحيون ويهود وغيرهم. وهذا يعني أنها كانت حضارة شراكة صب فيها الجميع وقت الفيض، وأخذ منها العالم برمته في أوقات الشح. وتعتبر أوروبا بنحو خاص مدينة بالكثير من تقدمها العلمي الآني لاختراعات ومكتشفات عربية، حيث أضاف إليها العرب مكتشفاتهم وخصائصهم وطبعوها بطابعهم الإنساني، واغترفت أوروبا منها ما شاء لها أن تغترف حتى الساعة.
زر مسجدي مبادرة حيوية تغني عن آلاف من ساعات المحاضرات أو برامج التلفزة الصورية، في زمن الإسلاموفوبيا وجرائم الكراهية المعادية للإسلام. أما السبب فمرده أن من يسمع ويلمس ويعيش مع الآخر المسلم، يختلف اختلافا جذريا عمن سلم آذانه لمروجي الشائعات من أعداء الحوار والجوار، من القوميين الجدد، أصحاب الرايات العنصرية الفاقعة، وملاك الحقيقة المطلقة المتوهمة الزاعقة.
إن أفضل ما تقدمه مبادرة زر مسجدي لبريطانيا ولبقية دول أوروبا، أنها تفتح الدروب واسعة على فهم مغاير، فهم قوامه أن المسلمين لا يعيشون ولا يسعون لأن يعيشوا في "غيتو" عصراني، مقارب لما عاشت فيه بعض الأعراق في أوروبا في القرون الغابرة، وتؤكد أنهم مجتمع مفتوح على الآخرين، مجتمع يرحب بالإنسان القائم والقادم دون تحقيق عنصري في خلفيته الإنسانية، بل يتفاعل معه بنشاط وصدق حتى يتعارفوا فيما بينهم، وتوضح المبادرة أن هذا العمل هو تأصيل وتجذير لقوله تعالى: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".
لم يعد العالم في حاجة إلى أفكار الابتكار على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل باتت الإنسانية وفي ظل التحديات المعاصرة، في حاجة إلى أفكار غير مقلوبة أو معلبة في سياق ونطاق مجابهة ومواجهة التحديات ذات الملمس الإنساني، وأغلب الظن أن مبادرة "زر مسجدي" تأتي في هذا الإطار، لتلبي الحاجة الملحة لدى كثير من البريطانيين والأوروبيين للتعرف على المسلمين والإسلام، ولتصحيح النظرة تجاه المسلمين خاصة في ظل المد المغلوط إعلاميا من أخبار وصور، يُسهم بعض أتباع الإفك في ترويجها، ويزخمهم من أسف بعض من أبناء الجاليات الإسلامية في أوروبا بعملياتهم التي لا تمت للإسلام بصلة.
التحدي طويل، والعقبات متعددة، لكن الرغبة والعزم بعيش حياة واحدة مع الآخر تسقط المخاوف، وتفتح الأبواب واسعة لصناعة حضارة إنسان القرن الحادي والعشرين، حضارة جسور الإنسانية لا جدران الكراهية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة