الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الولايات المتحدة هو إخراج الجني الأصولي الإسلامي من القمقم، وعدم مقدرتها لاحقا على إعادته إلى الداخل مرة أخرى
تمر هذه الأيام الذكرى السابعة عشرة لذلك الحادث الإرهابي غير المسبوق في تاريخ الجماعات الأصولية، حين تعرضت مدينتا نيويورك وواشنطن إلى هجمات شيطانية بطريقة مبتكرة، أي عبر استخدام الطائرات كصواريخ موجهة لأحداث أكبر ضرر ممكن في المدنيين الأبرياء على الأراضي الأمريكية.
ولعل السؤال الواجب طرحه في هذه الذكرى هل انتهى عصر الإرهاب بعد هذه الفترة الطويلة لا سيما بعد الإجراءات التي اتبعت لمجابهته، ودخول الولايات المتحدة الأمريكية في عدة حروب كبرى ظاهرة، وغيرها الأكثر بصورة خفية؟
الشاهد أنه لا يمكننا تقديم جواب عن السؤال المتقدم بغير التأصيل لجذور هذا التنظيم الإرهابي، ومعرفة الحاضنة التي نشأ فيها ومن خلالها بث سمومه حول العالم ولا يزال.
كارثية فكر الإخوان في حاضرات أيامنا تتصل بطريقة التجنيد واستقطاب العناصر الجديدة، فلم يعد الأمر كما كان الحال في وقت القاعدة، أي من خلال وجود تنظيمات عنقودية وتراتبية، بل باتت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة تقوم بهذا الدور وأكثر، وهنا الكارثة وليست الحادثة.
لعل الذين قدر لهم متابعة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، والأوراق التي خلفها من ورائه بعد مقتله في محل إقامته في باكستان، قد أدركوا كيف أن الرجل لم يكن إلا نتاج وحصيلة لفكر جماعة الإخوان المسلمين، بل إن رحلته إلى افغانستان ونشوء وارتقاء تنظيم القاعدة هناك لم يكن ليتم من الأصل دون وجود الإخوان كحاضنة أولى وأساسية.. كيف ذلك؟
يمكن القطع بأن ظاهرة الأفغان العرب قد كان وراءها في المبتدأ والخبر "عبدالله عزام"، ذاك الفلسطيني الذي يعد حلقة من حلقات قيادات الإخوان المسلمين في فلسطين، وليس سراً أن الإخوان ومنذ الأيام الأولى لتأسيس جماعتهم عام 1928 وهم يسعون إلى تأسيس فروع لجماعتهم في كل بلد عربي، وقد كانت فلسطين هي الأقرب، وعلى أرضها نشأ عزام والذي اعتبر الأب الروحي لأسامة بن لادن، وهو من زرع في فكره وقلبه وعقله جميع الأفكار المتطرفة، والتي وصلت به إلى حد اعتبار الاعتداء على الآمنين بمثابة غزوات، حسب تعبيره.
أما نائبه أيمن الظواهري، فليس بعيداً بدوره عن أحضان جماعة الإخوان الموصومة بالإرهاب بقوة القانون المصري، وكذا الأمر في العديد من عواصم العالم العربي، فقد بدا مسيرته عبر الجماعة الإسلامية، تلك المسؤولة عن قتل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وهي بدورها حصيلة تفرعات اسمية من الإخوان، مثلها مثل غيرها من جماعات الجهاد، والتكفير والهجرة، ومن رحم الإخوان خرجت بقية المجموعات التي تدعو لهجر المجتمع الكافر.
والثابت أنه لم يكن للقاعدة أن تنشأ من الأصل في أفغانستان دون أن تكون جماعة الإخوان على صلة ما منذ وقت مبكر بالولايات المتحدة الأمريكية، تلك التي فتحت أبوابها في عهد الرئيس إيزنهاور لصهر حسن البنا، المؤسس الأول لجماعة الإخوان المسلمين، ومن هناك نشأت علاقة تم تسخيرها لمواجهة الاتحاد السوفيتي والفكر الشيوعي، ولم تكن إبعاد العلاقة محبة وكرامة في الإسلام أو المسلمين، بل تسخير القوى الإسلامية لمعركة مع القطب الشيوعي الأكبر، وجعل المسلمين حائط صد يمنع صول الدب الأحمر إلى المياه الدافئة في الخليج العربي، وكذا يقطع الطريق عليه للوصول إلى آبار النفط هناك .
كان الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الولايات المتحدة هو إخراج الجني الأصولي الإسلامي من القمقم، وعدم مقدرتها لاحقاً على إعادته إلى الداخل مرة أخرى، وقد كان عراب الصفقة مع أبناء وأحفاد الإخوان مستشار الأمن القومي الأمريكي "زيجينو بريجنسكي " البولندي الأصل، وقد جادت قريحته بطرح إرسال الشباب العربي المسلم إلى أفغانستان لمقاتلة السوفيت، وهو يدرك تمام الإدراك لعبه على أوتار الإيمان العقائدي والحمية والحماس لدى هؤلاء وأولئك من المحيط إلى الخليج، وقد كانت خطته تمويلهم من خلال العالم العربي والإسلامي، ودعمهم بالسلاح الأمريكي.
ورغم أن الأمريكيين لديهم أفضل مراكز الدراسات حول العالم، عطفاً على أقوى الأجهزة الاستخباراتية القادرة على التحليل والتدقيق التاريخي والتعمق في المسائل الأيديولوجية، فقد نسوا أو تناسوا الأبعاد الحقيقية والأهداف العليا لجماعة الإخوان المسلمين حول العالم، وتصدير رؤاها لا للعالمين العربي والإسلامي، بل لأوروبا وأمريكا، ومن هنا نشأ في حقيقة الأمر التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين.
غني عن القول والحال هذه أن يكون "داعش" منتجاً سيئاً آخر من منتجات جماعة الإخوان المسلمين، فالدواعش هم القاعدة في العراق وبلاد الشام ليس أكثر، بل إن الخوف كل الخوف من أن يكون الأسوأ لم يأت بعد ، وهو ما تحدثت عنه تقارير أمنية واستخباراتية أمريكية، الأيام القليلة الفائتة، من محاولات جادة للإرهابيين في طريق تخليق جماعة إرهابية جديدة تجع بين فلول داعش والقاعدة وغيرها.
على أن كارثية فكر الإخوان في حاضرات أيامنا تتصل بطريقة التجنيد واستقطاب العناصر الجديدة، فلم يعد الأمر كما كان الحال في وقت القاعدة، أي من خلال وجود تنظيمات عنقودية وتراتبية، بل باتت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة تقوم بهذا الدور وأكثر ،وهنا الكارثة وليست الحادثة.
ويبقى السؤال.. وماذا بعد؟ وكيف للعالم الوقوف صفاً أمام فكر الإخوان المسلمين وبقية الجماعات الناشئة من حاضنتهم المسمومة؟
يبدو أننا في مجال مراجعة جذرية لطرق المقاومة، ومن خلالها يتضح لنا أن إطفاء الحريق لا يعني القضاء على الأسباب التي أدت إلى اشتعاله في الأصل، وهذا ما يمكن ترجمته في عبارة أخرى، وهي أن المطاردات الأمنية والاستخباراتية على أهميتها لا يمكن لها أن تقضي مرة وإلى الأبد على الافكار التي تواجه وتجابه بأفكار مثلها، ومن هنا يطفو على السطح حديث تجديد الفكر الديني.
تجديد الفكر الديني هو بمثابة قطع الطريق على لي أعناق النصوص الدينية، وتقديم طبعات مشبوهة ومغلوطة من فهم صحيح الدين وأصوله، والتلاعب بالمعاني والمباني، والتغرير بالأجيال الناشئة، وهي عملية ليست يسيرة، ولكنها في ذات الوقت ليست مستحيلة ، وهناك من الأصوات المفكرة العاقلة من الحقول الدينية والاجتماعية، العلمية والعملية، الإعلامية والسياسية في عالمنا العربي، من يمكنه أن يمضي في هذا الطريق الطويل محاولاً انتشال الأمة من قاع الإرهاب، الذي قادت جماعة الإخوان إليه الكثيرين .
اما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والتي ضربها زلزال الحادي عشر من سبتمبر ضربة قاصمة، ربما يتحتم عليها وعلى أجهزتها السرية أن تدرك مقدار الخطر المحدق بها بسبب النوم مع الشيطان، واللعب مع الجني ، وهي هنا مدعوة إلى أمرين:
الأول: هو قطع أصول وجذور العلاقة مع الجماعات الأصولية كافة وحول العالم ووقف دعمها وتشجيعها، وهو ما يبدو في حقيقة الحال أن إدارة الرئيس ترامب ماضية فيه قدماً.
الثاني: هو تصنيف جماعة الإخوان المسلمين في الداخل الأمريكي وحول العالم كجماعة إرهابية، والكف عن مغازلة ذلك التيار سيئ الإرث والسمعة .
حان الوقت لتتعلم أمريكا من أخطائها .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة