كل التنظيمات الإسلاموية المؤدلجة، والإخوان جزء منها، تفرض نوعاً من القداسة على التنظيم، اعتقاداً منها بأن هذه القداسة سوف تخلق ارتباطاً قوياً بين الأعضاء والحواريين والأتباع من جانب، والجماعة من جانب آخر. وبالتالي ينال القادة داخل التنظيم نصيباً كبيراً من
الإخوان ينظرون إلى التنظيم الذي ينتمون إليه بشيء من التقديس، فيحمدون الله على نعمة الإسلام والتنظيم معاً! فتجدهم يُكررون دعاء، الحمد لله على نعمة الإسلام، ويضيفون على الدعاء "والإخوان المسلمين"، فدعاء أعضاء التنظيم، "الحمد لله على نعمة الإسلام والإخوان المسلمين"! وهنا تبدو مقارنة الإخوان بين الإيمان بالله والانتماء للتنظيم.
الجماعة ترى الانتماء للتنظيم مرادف لا بد منه بعد الإسلام، وكأن المسلم لن يكون مسلماً إلا بالشهادتين، وشهادة هؤلاء هي الانتماء للتنظيم، وهم يعتقدون أنهم سوف يُحشرون إلى الله جماعات وليسوا فرادى، فمن كان ينتمي إلى تنظيم الإخوان فسوف يكون مصيره الجنة، وما دون ذلك سوف يسير على الصراط ويُنصب له الميزان.
وتلك هي آفة التنظيمات الإسلاموية والإخوان على وجه التحديد؛ الذين ربطوا أتباعهم بالتنظيم وقادته فكان ذلك أقرب إلى التقديس والتأليه، كان من الصعب فك هذا الارتباط أو هكذا اعتقدوا، وبالتبعية تعامل الأتباع والأعضاء والمحبين مع كل ما يصدر من هذه القيادات بنوع من التقديس، وهي درجة تفوق تنفيذ الأوامر والتكليفات إلى التعامل معها كما التعامل مع النص الإلهي.
في محاضن الإخوان التربوية يتم تدريب وتهيئة عضو التنظيم من خلال مدارسة سير قادة التنظيم وقوانين ولوائح الجماعة، والقواعد التي أرسوها، والتدريب عليها بحيث يخلقون مثالاً لما أوصى به المؤسس الأول حسن البنا، حين قال: "لا بد أن يكون الأخ بين إخوانه كما يكون الميت بين يدي مغسله"، وهنا فرض السمع والطاعة في المنشط والمكره، والملاحظ أنه فرض السمع والطاعة ولم يُوصِ بهما فقط.
ولذلك تجد التنظيم قد هجره المفكرون لأنهم لم يرتضوا أن يستوعبهم التنظيم فيفتقدون دورهم في التفكير والتنظير، رفضوا أن يُسيرهم شخص أقل منهم علماً وثقافة وربما إيماناً ولكنه يتفوق عليهم في الالتزام بالقيم التنظيمية، تلك التي وضعته في صدارة المشهد، فبات محركاً لمن يعلوه في درجات العلم والتفكير.
تقديس القادة محاولة من التنظيم للسيطرة على أعضائه؛ ولعل عزلة الجماعة مرتبطة بهذه الحالة التي تفرض على عضو التنظيم أن يتزوج من داخل التنظيم، وألا يشتري أو يبيع إلا لعضو التنظيم، وهنا الأمر مرتبط بالأفضلية، ومع الوقت يصير "الأخ" في التنظيم أقرب من "الأخ" الشقيق أو الأب، ومع الوقت تتلاشى العلاقة الأسرية لتحل مكانها العلاقة التنظيمية المعقدة.
التنظيم الذي يرسم ملامح التقديس على نفسه أمام أتباعه، يظل تنظيماً قوياً، لأنه نجح في خلق علاقة قوية بينه وبين أتباعه، صحيح هذه العلاقة عندما تنفك يتحرر عضو التنظيم، ولكن تبقى المشكلة دائماً في فك هذا الارتباط وفي إظهار صورة التنظيم الحقيقية.
وهنا تجد الإخوان يحفظون مقولات المؤسس الأول حسن البنا ومرشدي التنظيم أكثر مما يحفظون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهم دائماً يحفظون سير الجماعة كما أنهم حريصون على تدوينها ومدارستها سواء في لقاءات الأسر الأسبوعية أو اللقاءات العامة.
لا يسمح لعضو التنظيم أن يختلف على قادته أو يناقشهم، قد يكون هناك نقاش ولكنه في إطار القبول بالقرارات حتى ولو كانت مخالفة لهواه، رغم أن الجماعة لا مشكلة عندها في الانتقادات العامة التي لا تمس القيادات أو التنظيم، فهما يحظيان بالتقديس المشار إليه.
ويربط الإخوان بين انتقاد بعض الأعضاء "المتمردين" داخل التنظيم وبين ترقيتهم داخل الهياكل الإدارية لهذا التنظيم، وهناك من تجمد عضويته داخل التنظيم بسبب إصراره على عدم تقديس قيادات الجماعة ورسم صورة للتنظيم أقل مما يرسمها التنظيم عن نفسه.
التنظيم لا يسمح بالتخلي عن قيمه التي تُعلي من شأنه وشأن قادته، كما أن قادة التنظيم قد يُنافقون من أجل الحصول على حق أو مكانة أو مكسب، فمؤسس الجماعة الذي كان يُجلّ الملك فاروق ويصفه بأمير المؤمنين ويكتب فيه الشعر والنثر، هو من خرجت عليه الجماعة أو على الأقل تخلّت عنه، بما يؤكد استعداد التنظيم بقادته للنفاق مقابل الحصول على مكاسب خاصة.
هذه هي صورة التنظيم الذي يطلب القداسة من أعضائه أو يفرضها على نفسه أمام غير المنتمين، وهذه هي صورة القيادات التي تُنافق، وهؤلاء هم أعضاء الجماعة الذين وقعوا أسرى بين تنظيم آلّهه أصحابه وبين قادة يرون أنفسهم أنصاف إله لا يُسمح بتخطئتهم أو حتى مراجعتهم.
رسم صورة حقيقية للتنظيم دون تهويل أو تهوين يفك الارتباط بين الأعضاء المغيبين وبين التنظيم المُؤلَّه، وهنا يبدو دور الباحث والمؤرخ والمراقب في رسم هذه الصورة بدقة شديدة حتى يُساعد في فك هذا الارتباط، ما دون ذلك سوف تبقى محاولات قد لا تثمر نتيجة، وتظل الروابط التنظيمية التي تخلقها الجماعة أكبر وأقوى من عوامل هدمها.
تسليط الضوء على تنظيم الإخوان وقراءته من الداخل قراءة موضوعية يُساعدان على قطع الطريق أمام تقديس القادة والتنظيم، كما أنهما يُساعدان على كشف الغطاء أمام براغماتية ونفاق هؤلاء القادة الذين يختبئون أمام القداسة المزيفة التي رسمها التنظيم لنفسه على مدار عقود طويلة.
أخيراً وليس آخرًا، مواجهة الجماعة لا بد أن تبدأ من طريق القراءة الصحيحة للتنظيم، قراءة أدبيات التنظيم وتحولاته عبر المستقبل؛ فكلما كنت أقدر على القراءة كنت أقدر على المواجهة، ولعل هذا هو الهدف الأسمى من وراء هذا الطرح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة